كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)
جَمِيعًا، كلهم حكوا عَن النَّبِي: (لَا ينكسفان) ، بِالْكَاف، فَسُمي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر كسوفاً.
قلت: أغفل حَدِيث ابْن مَسْعُود من عِنْد البُخَارِيّ: لَا ينكسفان. قَوْله: (فصلى رَسُول ا) أَي: صَلَاة الْكُسُوف. قَوْله: (أريت) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء، أَي: بصرت النَّار فِي الصَّلَاة. قَوْله: (كَالْيَوْمِ) ، الْكَاف للتشبيه بِمَعْنى: مثل، وَهُوَ صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَهُوَ مَوضِع النّظر مَنْصُوب بقوله: (لم أر) . قَوْله: (أفظع) ، بِالنّصب صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَفِيه حذف أَيْضا وَتَقْدِير الْكَلَام: فَلم أر منْظرًا أفظع مثل منظر الْيَوْم، وأفظع من الفظيع، وَهُوَ الشنيع الشَّديد، والمجاوز للمقدار، يُقَال: فظع الْأَمر بِالضَّمِّ، فظاعة فَهُوَ فظيع أَي: شَدِيد شنيع جَاوز الْمِقْدَار. وَكَذَلِكَ أفظع الْأَمر فَهُوَ مفظع، وأفظع الرجل، على مَا لم يسم فَاعله، أَي: نزل بِهِ أَمر عَظِيم. فَإِن قلت: أفظع أفعل، وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِمن، قلت: أفظع هُنَا بِمَعْنى فظيع، فَلَا يحْتَاج إِلَى: من، أَو يكون على بَابه، وَحذف مِنْهُ من، كَمَا فِي اأكبر، أَي: أكبر من كل شَيْء. قَوْله: (قطّ) هَهُنَا لاستغراق زمَان مضى فتختص بِالنَّفْيِ، واشتقاقه من: قططته أَي: قطعته، فَمَعْنَى: مَا فعلته قطّ، مَا فعلته فِيمَا انْقَطع من عمري، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء المضمومة فِي أفْصح اللُّغَات، وَقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وَقد تتبع قافه طاءه فِي الضَّم، وَقد تخفف طاؤه مَعَ ضمهَا أَو اسكانها، وبنيت لتضمنها معنى: مذ، وَإِلَى إِذْ الْمَعْنى: مذ أَن خلقت إِلَى الْآن. وَإِنَّمَا بنيت على الْحَرَكَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان، وعَلى الضمة تَشْبِيها بالغايات.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة الْكُسُوف. وَفِيه: أَن النَّار مخلوفة الْيَوْم وَكَذَا الْجنَّة، إِذْ لَا قَائِل بِالْفرقِ خلافًا لمن أنكر ذَلِك من الْمُعْتَزلَة. وَفِيه: من معجزات النَّبِي، رُؤْيَته النَّار رَأْي عين حَيْثُ كشف اتعالى عَنهُ الْحجب، فرآها مُعَاينَة كَمَا كشف اله عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَفِيه: على مَا بوب البُخَارِيّ عدم كَرَاهَة الصَّلَاة إِذا كَانَت بَين يَدي الْمُصَلِّي نَار وَلم يقْصد بِهِ إلاَّ وَجه اتعالى.
25 - (بابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَفِي بعض النّسخ: كَرَاهَة الصَّلَاة. الْكَرَاهَة والكراهية كِلَاهُمَا مصدران، تَقول: كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة وكراهية، فَهُوَ شَيْء: كريه ومكروه. وَبَين الْبَابَيْنِ تناسب من حَيْثُ الضِّدّ، والمقابر جمع مَقْبرَة، بِضَم الْبَاء، هُوَ المسموع، وَالْقِيَاس فتح الْبَاء. وَفِي (شرح الْهَادِي) : إِن مَا جَاءَ على: مفعلة بِالضَّمِّ يُرَاد بهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة لذَلِك ومتخذة لَهُ، فَإِذا قَالُوا: الْمقْبرَة بِالْفَتْح أَرَادوا مَكَان الْفِعْل، وَإِذا ضمُّوا أَرَادوا الْبقْعَة الَّتِي من شَأْنهَا أَن يقبر فِيهَا، وَكَذَلِكَ: الْمشْربَة والمشربة، والتأنيث فِي هَذِه الْأَسْمَاء لإِرَادَة الْبقْعَة، أَو للْمُبَالَغَة، ليدل على أَن لَهَا ثباتاً فِي أَنْفسهَا.
234 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابْن عُمَرَ عنِ النبيِّ قَالَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ ولاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً. (الحَدِيث 234 طرفه فِي: 7811) .
قيل: هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن لَا تَكُونُوا فِي بُيُوتكُمْ كالأموات فِي الْقُبُور حَيْثُ انْقَطَعت عَنْهُم الْأَعْمَال، وَارْتَفَعت عَنْهُم التكاليف، وَهُوَ غير متعرض لصَلَاة الْأَحْيَاء فِي ظواهر الْمَقَابِر، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تتخذوها قبوراً، وَلم يقل: مَقَابِر. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث يدل على النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْقَبْر لَا فِي الْمَقَابِر. وَقَالَ السفاقسي مَا ملخصه: إِن البُخَارِيّ تَأَول هَذَا الحَدِيث على منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، والهذا ترْجم بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر أَو جَوَازهَا لَا يفهم مِنْهُ، وَقَالَ بَعضهم فِي رد مَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: قد ورد بِلَفْظ: الْمَقَابِر، كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) . انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب، كَيفَ يُقَال: حَدِيث يرويهِ غَيره، بِأَنَّهُ مُطَابق لما ترْجم بِهِ؟ وَقَالَ بَعضهم أَيْضا، فِي رد مَا قَالَه السفاقسي: إِن أَرَادَ أَنه لَا يُؤْخَذ مِنْهُ بطرِيق الْمَنْطُوق فَسلم، وَإِن أَرَادَ نفي ذَلِك مُطلقًا فَلَا، فقد قدمنَا وَجه استنباطه. انْتهى. قلت: وَجه استنباطه أَنه قَالَ: استنبط من قَوْله فِي الحَدِيث: (وَلَا تتخذوها قبوراً) . أَن الْقُبُور لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، فَتكون الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي ذَلِك حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي اعنه، مَرْفُوعا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . انْتهى.
الصفحة 186