كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)

يقْضِي عَن المَاء التَّيَمُّم، فَحذف الْجَار وأوصل الْفِعْل، وَالْقَصْد أَن التَّيَمُّم حكمه حكم الْوضُوء فِي جَوَاز أَدَاء الْفَرَائِض المتعددة بِهِ والنوافل مَا لم يحدث بِأحد الحدثين، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحسن بن حييّ وَدَاوُد بن عَليّ، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اتعالى عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَيَمَّم لكل صَلَاة فرض، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَشريك وَاللَّيْث وَأبي ثَوْر، وَذكره الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس من طرق ضَعِيفَة، وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن عَمْرو بن الْعَاصِ والْحَارث عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَعند الْحَاكِم مصححاً من حَدِيث أبي ذَر، وَقد طول الْكرْمَانِي فِي الِاحْتِجَاج للشَّافِعِيّ وَمن تبعه فِي هَذَا من طَرِيق الْعقل وَالنَّقْل يُبطلهُ، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر عَن الْحسن مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة: حدّثنا هشيم عَن يُونُس عَن الْحسن. قَالَ: (لَا ينْقض التَّيَمُّم إلاَّ الْحَدث) ، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم وَعَطَاء، وَوَصله أَيْضا عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه: (يجزىء تيَمّم وَاحِد مَا لم يحدث) . وَوَصله أَبُو مَنْصُور أَيْضا، وَلَفظه: (التَّيَمُّم بِمَنْزِلَة الْوضُوء، إِذا تَوَضَّأت فَأَنت على وضوء حَتَّى تحدث) . وَقَالَ ابْن حزم: وروينا عَن حَمَّاد بن سَلمَة، يَعْنِي من (مُصَنفه) عَن يُونُس بن عبيد عَن الْحسن، قَالَ: (يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِتَيَمُّم وَاحِد، مثل الْوضُوء، مَا لم بِحَدَث) .
وَأَمَّ ابنَ عَبَّاسٍ وهْوَ مُتَيَمِّمٌ.
50
- 50 هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن بِي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح.
ثمَّ وَجه مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّيَمُّم وضوء الْمُسلم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تجوز إِمَامَة الْمُتَيَمم للمتوضىء كإمامة المتوضىء، فَدلَّ ذَلِك على أَن التَّيَمُّم طَهَارَة مُطلقَة غير ضَرُورِيَّة، إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لَكَانَ ضَعِيفا، وَلَو كَانَ ضَعِيفا لما أم ابْن عَبَّاس وَهُوَ متيمم بِمن كَانَ متوضئاً، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يجوز، وَبِه قَالَ الْحسن بن حييّ، وَكره مَالك وَعبد ابْن الْحسن ذَلِك، فَإِن فعل أَجزَأَهُ. وَقَالَ ربيعَة: لَا يؤم الْمُتَيَمم من جنابته إلاَّ من هُوَ مثله، وَبِه قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤمهم إلاَّ إِذا كَانَ أَمِيرا، كَذَا قَالَه ابْن حزم. وَقَالَ أَبُو طَالب: سَأَلت أَبَا عبد اعن الْجنب يؤم المتوضئين؟ قَالَ: نعم قد أمَّ ابْن عَبَّاس أَصْحَابه وَفِيهِمْ عمار بن يَاسر وَهُوَ جنب، فَتَيَمم، وَعَمْرو بن الْعَاصِ صلى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ جنب، فَأخْبر النَّبِي فَتَبَسَّمَ. قلت: حسان بن عَطِيَّة سمع من عَمْرو بن الْعَاصِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِن يقوى بِحَدِيث ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب مَوْقُوفا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين، وَلَا الْمُقَيد المطلقين) . قلت: هَذَانِ حديثان ضعيفان، ضعفهما الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حزم وَغَيرهمَا. فَإِن قلت: ذكر أَبُو حَفْص بن شاهين فِي كتاب النَّاسِخ والمنسوخ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب، عَن عمر بن الْخطاب، مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) . قلت: لما ذكره ابْن شاهين ذكر بعده حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث نَاسِخا للْأولِ، وَهَذَا الحَدِيث أَجود إِسْنَادًا من حَدِيث الزُّهْرِيّ، وَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي فِي ذَلِك لضَرُورَة وَقعت مَعَ وجود المَاء. فَإِن قلت: يكون هَذَا رخصه لعَمْرو إِذْ لم يَنْهَهُ وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ. قلت: لَو كَانَ رخصَة لَهُ دون غَيره لم يقل لَهُ؛ أَحْسَنت وَضحك فِي وَجهه، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْمَسْأَلَة وَافق فِيهَا الْكُوفِيُّونَ وَالْجُمْهُور على خلاف ذَلِك. قلت: هَذَا عكس الْقَضِيَّة، بل الْجُمْهُور على الْمُوَافقَة، يقف عَلَيْهِ من يمعن النّظر فِي الْكتب. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتج المُصَنّف لعدم الْوُجُوب بِعُمُوم قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: مَا لم تحدث أَو تَجِد المَاء، وَحمله الْجُمْهُور على أَعم من ذَلِك، أَي: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل. انْتهى. قلت: معنى قَوْله: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: فِي كل الصَّلَوَات فَرضهَا ونفلها، وَهَذَا هُوَ معنى الأعمية، وَلَيْسَ فِي قَوْله: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل معنى الأعمية، لِأَن معنى الأعمية فِي شَيْء أَن يكون شَامِلًا لجَمِيع أَفْرَاد ذَلِك الشَّيْء، وَلَيْسَ لقَوْله: لفريضة وَاحِدَة، إِفْرَاد. وَأما النَّفْل فَإِنَّهُ تبع للْفَرض، وَالتَّابِع لَيْسَ لَهُ حكم مُسْتَقْبل بل، حكمه حكم الْمَتْبُوع. فَافْهَم.
وقالَ يَحْيَى بنُ سعِيدٍ لاَ بأسَ بالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيمُّمِ بِهَا.
يحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، ومطابقة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى الطّيب الطَّاهِر والسبخة طَاهِرَة، فَتدخل تَحت الطّيب. وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، فِي شَأْن الْهِجْرَة، أَنه قَالَ: (أَرَأَيْت دَار

الصفحة 24