كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)

وَإِدْرِيس وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب، وَفِي غَيره ذكر أَيْضا: يحيى ويوسف وَهَارُون، وهم ثَمَانِيَة؟ وَأجِيب. أما آدم فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة بعداوة إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، لَهُ وتحيله، فَكَذَلِك نَبينَا خرج من مَكَّة بأذى قومه لَهُ وَلمن أسلم مَعَه، وَأَيْضًا، فَإِن اتعالى أَرَادَ أَن يعرض على نبيه نسم بنيه من أهل الْيَمين وَأهل الشمَال، ليعلم بذلك أهل الْجنَّة وَأهل النَّار. وَأَيْضًا فَإِن آدم أَبُو الْبشر وَأول الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، وكنيته أَبُو الْبشر أَيْضا. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وروى ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ مَرْفُوعا: (أهل الْجنَّة لَيْسَ لَهُم كنى إلاَّ آدم فَإِنَّهُ يكنى: أَبَا مُحَمَّد) . وَمن حَدِيث كَعْب الْأَحْبَار: (لَيْسَ لأحد من أهل الْجنَّة لحية إلاَّ آدم، فَإِن لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سرته) . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا كَانَت اللحى بعد آدم، ثمَّ قيل: إِن اسْم آدم سرياني، وَقيل: مُشْتَقّ، فَقيل: أفعل من الأدمة. وَقيل: من لفظ الْأَدِيم، لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: سمي آدم لبياضه. وَذكر مُحَمَّد بن عَليّ: أَن الآدم من الظباء الطَّوِيل القوائم. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن اخلق آدم على صورته، طوله سِتُّونَ ذِرَاعا، فَكل من يدْخل الْجنَّة على صورته وَطوله، وَولد لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا فِي عشْرين بَطنا، وَعمر ألف سنة، وَلما أهبطه من الْجنَّة هَبَط (بسر نديب) من الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ؛ (نوذ) وَلما حَضرته الْوَفَاة اشْتهى قطف عِنَب، فَانْطَلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: أَيْن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: إِن أَبَانَا اشْتهى قطفاً. قَالُوا: ارْجعُوا فقد كفيتموه، فَرَجَعُوا فوجدوه قد قبض، فغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة خَلفه وَبَنوهُ خَلفهم، ودفنوه. وَقَالُوا: هَذِه سنتكم فِي مَوْتَاكُم) . وَدفن فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز، فِي أبي قبيس، فاستخرجه نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الطوفان وَأَخذه وَجعله فِي تَابُوت مَعَه فِي السَّفِينَة، فَلَمَّا نضب المَاء رده نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى مَكَانَهُ.
وَأما إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ أول من كتب بالقلم وانتشر مِنْهُ بعده فِي أهل الدُّنْيَا، فَكَذَلِك نَبينَا، كتب إِلَى الْآفَاق، وَسمي بِذَاكَ لدرسه الصُّحُف الثَّلَاثِينَ الَّتِي أنزلت عَلَيْهِ، فَقيل: إِنَّه خنوخ، وَيُقَال: أَخْنُوخ، وَيُقَال: اخنخ، وَيُقَال: اهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شِيث بن آدم. وَقَالَ الْحَرَّانِي: اسْم أمه: برة، وخنوخ سرياني، وَتَفْسِيره بالعربي: إِدْرِيس، قَالَ وهب: هُوَ جد نوح، وَقد قيل: إِنَّه إلْيَاس، وَإنَّهُ لَيْسَ بجد نوح وَلَا هُوَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب، وَنَقله السُّهيْلي عَن ابْن الْعَرَبِيّ، وَاسْتشْهدَ بِحَدِيث الْإِسْرَاء حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (مرْحَبًا بالأخ الصَّالح) ، وَلَو كَانَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب لقَالَ لَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم: (وَالِابْن الصَّالح) ، وَذكر بَعضهم أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا فِي بني إِسْرَائِيل، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا اعْتِرَاض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه قَالَ تلطفاً وتأدباً، وَهُوَ أَخ، وَإِن كَانَ ابْنا وَالْأَبْنَاء أخوة، والمؤمنون أخوة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: أَكثر الطّرق على أَنه خاطبه بالأخ. قَالَ: وَقَالَ لي ابْن أبي الْفضل: صحت لي طَرِيق أَنه خاطبه فِيهَا بالإبن الصَّالح. وَقَالَ الْمَازرِيّ: ذكر المؤرخون أَن إِدْرِيس جد نوح، فَإِن قَامَ دَلِيل على أَن إِدْرِيس أرسل، لم يَصح قَول النسابين: إِنَّه جد نوح، لإخبار نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (ائْتُوا نوحًا فَإِنَّهُ أول رَسُول بَعثه اإلى أهل الأَرْض) ، وَإِن لم يقم دَلِيل جازم، قَالَ: وَصَحَّ أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا وَلم يُرْسل، قَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث أبي ذَر الطَّوِيل يدل على أَن آدم وَإِدْرِيس رسولان. قلت: حَدِيث أبي ذَر أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : رفع إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة، وَرَآهُ فِيهَا، وَرفع وَهُوَ ابْن ثَلَاث مائَة وَخمْس وَسِتِّينَ سنة.
وَأما إِبْرَاهِيم، فَإِن نَبينَا، رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، فَكَذَلِك حَال نَبينَا، كَانَ فِي حجه الْبَيْت واختتام عمره بذلك، كَانَ نَظِير لِقَائِه إِبْرَاهِيم فِي آخر السَّمَوَات، وَمعنى إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، وكنيته أَبُو الضيفان. قيل: إِنَّه ولد بغوطة دمشق ببرزة فِي جبل قاسيون، وَالصَّحِيح أَنه ولد بكوثا من إقليم بابل من الْعرَاق، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عدَّة قُرُون، وَقيل: ولد على رَأس ألف سنة من خلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذكر الطَّبَرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا نطق بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من نمْرُود، عَلَيْهِ اللَّعْنَة. وَقَالَ نمْرُود للَّذين أرسلهم وَرَاءه فِي طلبه: إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ، فَلَمَّا أدركوه استنطقوه، فحول السانه عبرانياً، وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر، فسميت العبرانية بذلك. قلت: المُرَاد من هَذَا النَّهر هُوَ الْفُرَات، وَبلغ إِبْرَاهِيم مِائَتي سنة. وَقيل: تنتقص خَمْسَة وَعشْرين. وَدفن بالبلدة الْمَعْرُوفَة بالخليل.
وَأما مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن أمره آل إِلَى قهر الْجَبَابِرَة وإخراجهم من أَرضهم،

الصفحة 49