كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)

الْعَرَبِيّ: هَذِه معضلة مَا وجدت لدائها من دَوَاء، لأَنا لَا نعلم أَي الْآيَتَيْنِ عنت عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ أَيَّة النِّسَاء وَآيَة الْمَائِدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ آيَة النِّسَاء. لِأَن آيَة الْمَائِدَة تسمى: آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي آيَة النِّسَاء ذكر الْوضُوء، وَأورد الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) هَذَا الحَدِيث عِنْد ذكر آيَة النِّسَاء أَيْضا. وَقَالَ السفاقسي، كلَاما طَويلا ملخصه: أَن الْوضُوء كَانَ لَازِما لَهُم، وَآيَة التَّيَمُّم، أما الْمَائِدَة أَو النِّسَاء، وهما مدنيتان، وَلم يكن صَلَاة قبلُ إلاَّ بِوضُوء، فَلَمَّا نزلت آيَة التَّيَمُّم لم يذكر الْوضُوء لكَونه مُتَقَدما متلواً، لِأَن حكم التَّيَمُّم هُوَ الطارىء على الْوضُوء.
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون نزل أَولا أول الْآيَة، وَهُوَ فرض الْوضُوء، ثمَّ نزلت عِنْد هَذِه الْوَاقِعَة آيَة التَّيَمُّم وَهُوَ تَمام الْآيَة وَهُوَ: {وَإِن كُنْتُم مرضى} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَيحْتَمل أَن يكون الْوضُوء كَانَ بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرته عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. قلت: لَو وقف هَؤُلَاءِ على مَا ذكره أَبُو بكر الْحميدِي فِي جمعه فِي حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} (الْمَائِدَة: 6) الْآيَة إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) لما احتاجوا إِلَى هَذَا التخرص، وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِذْ تَلا بَقِيَّة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة. قَوْله: (فَتَيَمَّمُوا) صِيغَة الْمَاضِي، أَي: فَتَيَمم النَّاس بعد نزُول الْآيَة وَهِي. قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء) وَالظَّاهِر أَنه صِيغَة الْأَمر على مَا هُوَ لفظ الْقُرْآن ذكره بَيَانا أَو بَدَلا عَن آيَة التَّيَمُّم، أَي: أنزل اتعالى: {فَتَيَمَّمُوا} (الْمَائِدَة: 6 النِّسَاء: 36) .
قَوْله: (فَقَالَ أسيد بن الْحضير) ، بِضَم الْهمزَة: مصغر أَسد، والحضير، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بالنُّون، قَالَ: وَفِي بَعْضهَا: الْحضير، بِالْألف وَاللَّام. وَهُوَ نَحْو: الْحَارِث، من الْأَعْلَام الَّتِي تدْخلهَا لَام التَّعْرِيف جَوَازًا. قلت: إِنَّمَا يدْخلُونَهَا للمح الوصفية، وَأسيد بن حضير بن شمال الأوسي الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي، أَبُو يحيى، أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة الثَّانِيَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين، وَحمل عمر، رَضِي اعنه، جنَازَته من حملهَا وَصلى عَلَيْهِ وَدفن بِالبَقِيعِ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عبد ابْن نمير عَن هِشَام: (فَبعث رجلا فَوَجَدَهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (فَبَعَثنَا الْبَعِير فأصبنا العقد) ، وَبَينهمَا تضَاد. قلت: قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ بَينهمَا تنَاقض، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْمَبْعُوث هُوَ أسيد بن حضير فَوَجَدَهَا بعد رُجُوعه من طلبَهَا، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي وجدهَا عِنْد إثارة الْبَعِير بعد انصراف المبعوثين إِلَيْهَا، فَلَا يكون بَينهمَا تعَارض. انْتهى. قلت: هما وَاقِعَتَانِ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الرِّوَايَة الأولى: (عقد) ، وَفِي الْأُخْرَى: (قلادة) ، فَلَا تعَارض حينئذٍ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: بعث رجلا، يَعْنِي أَمِيرا على جمَاعَة كعادته، فَعبر بعض الروَاة: بأناس، يَعْنِي أسيداً وَأَصْحَابه. وَبَعْضهمْ: برجلاً، يَعْنِي الْمشَار إِلَيْهِ، أَو يكون قَوْلهَا، فَوَجَدَهُ، تَعْنِي بذلك النَّبِي، لَا الرجل الْمَبْعُوث.
فَإِن قلت: مَا معنى قَول أسيد مَا قَالَه دون غَيره؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ رَأس المبعوثين فِي طلب العقد الَّذِي ضَاعَ. قَوْله: (مَا هِيَ بِأول بركتكم) أَي: لَيْسَ هَذِه الْبركَة أول بركتكم، بل هِيَ مسبوقة بغَيْرهَا من البركات، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أَن قَوْله: (هِيَ) ، يرجع إِلَى الْبركَة وَإِن لم يمض ذكرهَا، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (لقد بَارك اللناس فِيكُم) ، وَفِي تَفْسِير إِسْحَاق البستي من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَنْهَا: (أَن النَّبِي، قَالَ لَهَا: مَا كَانَ أعظم بركَة قلادتك) . وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فوا مَا نزل بك أَمر تكرهينه إلاَّ جعل اللمسلمين خيرا) . وَفِي النِّكَاح من هَذَا الْوَجْه: (إلاَّ جعل الك مِنْهُ مخرجا، وَجعل للْمُسلمين فِيهِ بركَة) ، وَهَذَا يشْعر بِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بعد قصَّة الْإِفْك، فيقوي قَول من ذهب إِلَى تعدد ضيَاع العقد، وَمِمَّنْ جزم بذلك مُحَمَّد بن حبيب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: (سقط عقد عَائِشَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَفِي غَزْوَة بني المصطلق) ، وَقد اخْتلف أهل الْمَغَازِي فِي أَي هَاتين الغزوتين كَانَت أول، فَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَت قصَّة التَّيَمُّم فِي غَزْوَة الْفَتْح، ثمَّ تردد فِي ذَلِك، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي اعنه، قَالَ: (لما نزلت آيَة التَّيَمُّم لم أدرِ كَيفَ أصنع) . الحَدِيث، فَهَذَا يدل على تأخرها عَن غَزْوَة بني المصطلق. لِأَن إِسْلَام أبي هُرَيْرَة كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، إِن شَاءَ اتعالى، أَن البُخَارِيّ يرى أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع كَانَت بعد قدوم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وقدومه كَانَ وَقت إِسْلَام أبي هُرَيْرَة. وَمِمَّا يدل على تَأَخّر الْقِصَّة أَيْضا عَن قصَّة الْإِفْك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عباد بن عبد ابْن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَتقدم ذكره عَن قريب.
قَوْله: (فَبَعَثنَا الْبَعِير) أَي: أثرنا الْبَعِير الَّذِي كنت عَلَيْهِ حَالَة

الصفحة 5