كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)

السّير. قَوْله: (فأصبنا) أَي: وجدنَا، وَهَذَا يدل على أَن الَّذين توجهوا فِي طلبه أَولا لم يجدوه. فَإِن قلت: وَفِي رِوَايَة عُرْوَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فَبعث رَسُول ا، رجلا فَوَجَدَهَا) . أَي: القلادة. وللبخاري فِي فضل عَائِشَة من هَذَا الْوَجْه، وَكَذَا لمُسلم: (فَبعث نَاسا من الصَّحَابَة فِي طلبَهَا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (فَبعث أسيد بن حضير وناساً مَعَه) . قلت: الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات أَن أسيداً كَانَ رَأس من بعث لذَلِك، كَمَا ذكرنَا، فَلذَلِك سمي فِي بعض الرِّوَايَات دون غَيره، وَكَذَا أسْند الْفِعْل إِلَى وَاحِد مِنْهُم. وَهُوَ المُرَاد بِهِ، وَكَأَنَّهُم لم يَجدوا العقد أَولا، فَلَمَّا رجعُوا وَنزلت آيَة التَّيَمُّم، وَأَرَادُوا الرحيل وآثاروا الْبَعِير وجده أسيد بن حضير، فعلى هَذَا فَقَوله فِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة: فَوَجَدَهَا أَي: بعد جَمِيع مَا تقدم من التفتيش وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون فَاعل: وجدهَا، هُوَ النَّبِي، وَقد بَالغ الدَّاودِيّ فِي توهيم رِوَايَة عُرْوَة، وَنقل عَن إِسْمَاعِيل القَاضِي أَنه حمل الْوَهم فِيهَا على عبد ابْن نمير، وَقد بَان بذلك أَن لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا وهم. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (سَقَطت قلادة لي) ، وَفِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة عَنْهَا: أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء يَعْنِي أُخْتهَا فَهَلَكت، أَي: ضَاعَت، فَكيف التَّوْفِيق هَهُنَا؟ قلت: إِضَافَة القلادة إِلَى عَائِشَة لكَونهَا فِي يَدهَا وتصرفها، وَإِلَى أَسمَاء لكَونهَا ملكهَا لتصريح عَائِشَة بذلك فِي رِوَايَة عُرْوَة الْمَذْكُورَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: أَن بَعضهم اسْتدلَّ مِنْهُ على جَوَاز الْإِقَامَة فِي الْمَكَان الَّذِي لَا مَاء فِيهِ، وسلوك الطَّرِيق الَّذِي لَا مَاء فِيهَا، وَفِيه نظر، لِأَن الْمَدِينَة كَانَت قريبَة مِنْهُم وهم على قصد دُخُولهَا، وَيحْتَمل أَن النَّبِي لم يعلم بِعَدَمِ المَاء مَعَ الركب، وَإِن كَانَ قد علم بِأَن الْمَكَان لَا مَاء فِيهِ، وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (لَيْسَ مَعَهم مَاء) أَي: للْوُضُوء، وَأما مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ للشُّرْب فَيحْتَمل أَن يكون كَانَ مَعَهم.
الثَّانِي: فِيهِ شكوى الْمَرْأَة إِلَى أَبِيهَا، وَإِن كَانَ لَهَا زوج، وَإِنَّمَا شكوا إِلَى أبي بكر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لكَون النَّبِي كَانَ نَائِما، وَكَانُوا لَا يوقظونه، كَذَا قَالُوا. قلت: يجوز أَن تكون شكواهم إِلَى أبي بكر دون النَّبِي خوفًا على خاطر النَّبِي من تغيره عَلَيْهَا.
الثَّالِث: فِيهِ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى من كَانَ سَببا فِيهِ لقَولهم: أَلا ترى إِلَى مَا صنعت؟ يَعْنِي: عَائِشَة.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز دُخُول الرجل على ابْنَته، وَإِن كَانَ زَوجهَا عِنْدهَا إِذا علم رِضَاهُ بذلك وَلم يكن حَالَة الْمُبَاشرَة.
الْخَامِس: فِيهِ تَأْدِيب الرجل ابْنَته وَلَو كَانَت متزوجة كَبِيرَة خَارِجَة عَن بَيته، ويلتحق بذلك تَأْدِيب من لَهُ تأديبه وَإِن لم يَأْذَن لَهُ الإِمَام.
السَّادِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الصَّبْر لمن ناله مَا يُوجب الْحَرَكَة إِذْ يحصل بِهِ التشويش لنائم، وَكَذَا الْمُصَلِّي أَو قارىء أَو مشتغل بِعلم أَو ذكر.
السَّابِع: فِيهِ الِاسْتِدْلَال على الرُّخْصَة فِي ترك التَّهَجُّد فِي السّفر إِن ثَبت أَن التَّهَجُّد كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ.
الثَّامِن: فِيهِ أَن طلب المَاء لَا يجب إلاَّ بعد دُخُول الْوَقْت، لقَوْله فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث، بعد قَوْله: (وَحَضَرت الصَّلَاة فالتمس المَاء) .
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الْوضُوء كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ قبل نزُول آيَة الْوضُوء، وَلِهَذَا استعظموا نزولهم على غير مَاء، وَوَقع من أبي بكر فِي حق عَائِشَة مَا وَقع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أهل الْمَغَازِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ مُنْذُ فرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة إلاَّ بِوضُوء، وَلَا يدْفع ذَلِك إلاَّ جَاهِل أَو معاند. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، مَا الْحِكْمَة فِي نزُول آيَة الْوضُوء مَعَ تقدم الْعَمَل بِهِ. قلت: ليَكُون فَرْضه متلواً بالتنزيل، وَيحْتَمل أَن يكون أول آيَة الْوضُوء نزل قَدِيما فعملوا بِهِ، ثمَّ نزلت بقيتها وَهُوَ ذكر التَّيَمُّم فِي هَذِه الْقِصَّة، فإطلاق آيَة التَّيَمُّم على هَذَا من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض، لَكِن رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم فِي هَذَا الحَدِيث، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله: {تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) تدل على أَن الْآيَة نزلت جَمِيعهَا فِي هَذِه الْقِصَّة، وَيُقَال: كَانَ الْوضُوء بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ أَولا. ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرت عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. فَإِن قلت: ذكر الْحَافِظ فِي كتاب (الْبُرْهَان) أَن الأسلع الأعرجي الَّذِي كَانَ يرحل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا: إِنِّي جنب وَلَيْسَ عِنْدِي مَاء، فَأنْزل اآية التَّيَمُّم. قلت: هَذَا ضَعِيف، وَلَئِن صَحَّ فَجَوَابه يحْتَمل أَن يكون قَضِيَّة الأسلع وَاقعَة فِي قَضِيَّة سُقُوط العقد، لِأَنَّهُ كَانَ يخْدم النَّبِي، وَكَانَ صَاحب رَاحِلَته، فاتفق لَهُ هَذَا الْأَمر عِنْد وُقُوع قَضِيَّة سُقُوط العقد.
الْعَاشِر: فِيهِ دَلِيل على وجوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم، لِأَن معنى: (تيمموا) اقصدوا، وَهُوَ قَول فُقَهَاء الْأَمْصَار إلاَّ الْأَوْزَاعِيّ وَزفر.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الصَّحِيح وَالْمَرِيض والمحدث وَالْجنب، وَلم يخْتَلف فِيهِ عُلَمَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام والمشرق وَالْمغْرب، وَقد كَانَ عمر بن

الصفحة 6