كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 4)

فِي أجرته. وهبيرة، بِضَم الْهَاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: ابْن أبي وهب بن عمر بن عَائِد بن عمرَان المَخْزُومِي زوج أم هانىء بنت أبي طَالب، شَقِيقَة عَليّ بن أبي طَالب، كرم اوجهه، وَهِي أسلمت عَام الْفَتْح، وَكَانَ لهبيرة أَوْلَاد مِنْهَا وهم: عمر، وَبِه كَانَ يكنى، وهانيء ويوسف وجعدة، وَقد ذكرنَا أَن اسْم أم هانىء: فَاخِتَة، وكنيت بهانىء أحد أَوْلَادهَا الْمَذْكُورين. ثمَّ قَوْلهَا؛ فلَان ابْن هُبَيْرَة، فِيهِ اخْتِلَاف كثير من جِهَة الرِّوَايَة وَمن جِهَة التَّفْسِير، فَفِي (التَّمْهِيد) من حَدِيث مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعد عَن أبي مرّة: (عَن أم هانىء قَالَت: أَتَانِي يَوْم الْفَتْح حموان لي فاجرتهما، فجَاء عَليّ يُرِيد قَتلهمَا فَأتيت النَّبِي وَهُوَ فِي قبَّة بِالْأَبْطح بِأَعْلَى مَكَّة) . الحَدِيث، وَفِيه: (أجرنا من أجرت وأمَّنَّا من أمنت) . وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) (إِنِّي أجرت حموي) .
وَفِي رِوَايَة: (حموي ابْن هُبَيْرَة) . وَفِي رِوَايَة: (حموي ابْني هُبَيْرَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: فِي حَدِيث أبي النَّضر مَا يدل على أَن الَّذِي أجرته كَانَ وَاحِدًا، وَفِي هَذَا اثْنَيْنِ: وَأما من جِهَة التَّفْسِير فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج: الرّجلَانِ هما: جعدة بن هُبَيْرَة، وَرجل آخر، وَكَانَا من الشرذمة الَّذين قَاتلُوا خَالِدا، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلم يقبلُوا الْأمان وَلَا ألقوا السِّلَاح، فأجارتهما أم هَانِيء، وَكَانَا من أحمائها، وروى الْأَزْرَقِيّ بِسَنَد فِيهِ الْوَاقِدِيّ فِي حَدِيث أم هَانِيء هَذَا: أَنَّهُمَا الْحَارِث بن هَاشم، وَابْن هُبَيْرَة بن أبي وهب، وَجزم ابْن هِشَام فِي (تَهْذِيب السِّيرَة) بِأَن اللَّذين أجرتهما أم هانىء هما: الْحَارِث بن هِشَام وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة المخزوميان. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة أَو ربيبها، كَمَا أَن الْإِبْهَام فِيهِ مُحْتَمل أَن يكون من أم هَانِيء، وَأَن يكون الرَّاوِي نسي اسْمه فَذكره بِلَفْظ: فلَان، قَالَ الزبير بن بكار: فلَان بن هُبَيْرَة هُوَ: الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي، وَقَالَ بَعضهم؛ الَّذِي يظْهر لي أَن فِي رِوَايَة الْبَاب حذفا، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فلَان بن عَم هُبَيْرَة، فَسقط لفظ: عَم، أَو كَانَ فِيهِ: فلَان قريب هُبَيْرَة، فَتغير لفظ: قريب، بِلَفْظ: ابْن، وكل من الْحَارِث بن هِشَام، وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة، وَعبد ابْن أبي ربيعَة يَصح وَصفه بِأَنَّهُ: ابْن عَم هُبَيْرَة. وقريبه، لكَون الْجَمِيع من بني المخزوم.
قلت: الأصوب وَالْأَقْرَب أَن يَقُول فِي تَوْجِيه رِوَايَة أبي النَّضر. فلَان بن هُبَيْرَة، أَن يكون المُرَاد من فلَان هُوَ: ابْن هُبَيْرَة من غير أم هَانِيء: فنسي الرَّاوِي اسْمه وَذكره بِلَفْظ: فلَان، وَيدل على صِحَة هَذَا رِوَايَة ابْن عجلَان فِي (التَّمْهِيد) وَرِوَايَات الطَّبَرَانِيّ، فَإِنَّهَا تدل على أَن الَّذِي أجرته أم هَانِيء هُوَ حموها. فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي النَّضر وَاحِد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَات اثْنَان. قلت: لَا يضر ذَلِك لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي اقْتصر على ذكر وَاحِد مِنْهُمَا نِسْيَانا، كَمَا أبهم اسْمه نِسْيَانا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن كَانَ ابْن هُبَيْرَة مِنْهَا فَهُوَ جعدة، وَجوز أَبُو عمر أَن يكون من غَيرهَا وَهُوَ الأصوب لما ذكرنَا. فَإِن قلت: قَالَ بَعضهم: نقل أَبُو عمر، من أهل النّسَب أَنهم لم يذكرُوا لهبيرة ولدا من غَيرهَا. قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهم ذَلِك أَن لَا يكون لَهُ ابْن من غَيرهَا. فَإِن قلت: قَالَ هَذَا الْقَائِل: جعدة مَعْدُود فِيمَن لَهُ رِوَايَة وَلم يَصح لَهُ صُحْبَة، وَقد ذكره من حَيْثُ الرِّوَايَة فِي التَّابِعين: البُخَارِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا، فَكيف يتهيأ لمن هَذِه سَبيله فِي صغر السن أَن يكون عَام الْفَتْح مُقَاتِلًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْأمان؟ ثمَّ لَو كَانَ ولد أم هانىء لم يهم، عَليّ رَضِي اعنه، بقتْله لِأَنَّهَا كَانَت قد أسلمت وهرب زَوجهَا وَترك وَلَدهَا عِنْدهَا؟ قلت: كَونه تابعياً أَو صحابياً على مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف لَا يُنَافِي مَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل ذَلِك، وَقَوله: فَكيف يتهيأ إِلَى آخِره؟ مُجَرّد دَعْوَى فَيحْتَاج إِلَى برهَان، فَظهر مِمَّا ذكرنَا أَن قَول الْكرْمَانِي: أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة أَو ربيبها أقرب إِلَى الصَّوَاب وأوجه.
وَقَول بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي ... الخ بعيد من ذَلِك، وَتصرف من عِنْده بِغَيْر وَجه لِأَن فِيهِ ارْتِكَاب الْحَذف وَالْمجَاز وَالتَّقْدِير بِشَيْء بعيد غير مُنَاسِب، ومخالف لما ذكره هَؤُلَاءِ المذكورون آنِفا، وَهَذَا كُله خلاف الأَصْل، وَمِمَّا يمجه من لَهُ يَد فِي التَّصَرُّف فِي الْكَلَام.
قَوْله: (وَذَلِكَ ضحى) ويروى: (وَذَاكَ ضحى) ، وَهُوَ إِشَارَة لما ذكرته من قَوْلهَا: (فصلى ثَمَانِي رَكْعَات) أَي: كَانَ ذَلِك وَقت ضحى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة أَحْمد فِي هَذَا الحَدِيث، وَذَلِكَ يو فتح مَكَّة ضحى، وَيجوز أَيْضا يُقَال: وَذَلِكَ صَلَاة ضحى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة أبي حَفْص بن شاهين أَن أم هانىء قَالَت: يَا رَسُول ا؟ مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: (الضُّحَى) ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: (ثمَّ صلى الضُّحَى ثَمَانِي رَكْعَات) ، وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْأَصَح، وَهَذَا أَيْضا يمْنَع التحرض فِي ذَلِك بِأَن قَالَ بَعضهم هِيَ: صَلَاة الْفَتْح، وَبَعْضهمْ: صَلَاة الْإِشْرَاق، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ صلى ثَمَانِي رَكْعَات سبْحَة الضُّحَى) .

الصفحة 63