كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

ولا يقول لك الله في الثالث: لم كنت (¬1) تدعي أن عقلك لا يحيط بصفاتي، ولا بكنهها؟ فهذه طرق حق واضحة، وعمل بنور القرآن، معلوم أنها ليس وراءها تبعة ولا بلايا ولا مشكلة؛ لأنها خروج من مأزق عظيم في ضوء نور كتاب الله (جل وعلا)، وهو المخرج من كل بلية، والمنقذ من جميع أنواع الضلال. واعلموا -أيها الإخوان- أن كثيرًا من أجِلاء المتعلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من النظار -بعد أن نشأ علم الكلام- غلطوا غلطًا شديدًا في هذه المسألة على كثرتهم وقوة علمهم وفهمهم، وهم -كما قال الإمام الشافعي (رحمه الله) - قَصْدُهُمْ حَسَنٌ، ولا يريدون سُوءًا ولا يريدون إلا تعظيم الله وتَنْزِيهَهُ، ولكنهم غلطوا في طريق ذلك، وأخذوا غير الطريق الصواب فغلطوا، فهم كما قال الإمام الشافعي رحمه الله (¬2):
رَامَ نَفْعًا فَضَرّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ ... وَمِنَ البِرِّ مَا يكُونُ عُقُوقَا
وسنضرب لكم مثلاً في صفة من الصفات كصفة الاستواء مثلاً، هذه من الصفات التي اشتهر غلط كثير من الطوائف فيها من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من أنواع الطوائف. فمعلوم أن الاستواء هو صفة من صفات الله التي أثنى الله بها على نفسه في سبع آيات من كتابه، وما ذكرها مادحًا بها نفسه إلا مقرونة بأنواع من صفات الكمال والجلال تُبْهِرُ العُقُولَ بعِظَمِهَا، فالسَّلَفِيُّ إذا سَمِعَ اللهَ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: آية 2] امتلأ قلبه من الإجلال والتعظيم والإكبار لصفة الاستواء، واعتقد اعتقادًا جازمًا أنها
¬_________
(¬1) في الأصل: «كنت لا تدعي».
(¬2) مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأنعام.

الصفحة 14