كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

السَّيِّئَةَ حركت عمرك وتاجرت فيه مع خالق السماوات والأرض تجارة، وذلك أن تصرف ساعات العمر وأوقاته ودقائقه وثوانيه فيما يُرْضِي رَبَّكَ، وتحذر أن تصرف شيئًا منه فيما يسخط خالقك (جل وعلا) فتنظر في أوقات عمرك الوقت الذي يتوجَّهُ إليك فيه أمرٌ من السماء -كأوقات الصلوات وأوقات الصوم وأوقات الحج وما جرى مجرى ذلك- فتبادر إلى امتثال أمْرك بنفس طيِّبَة مُسارعة راغبة فيما عند الله، والأوقات الذي لم يتوجه عليك طلب مخصوص تستزيد من الخير بالنصوص العامة التي تحثك على طلب الخير ومرضاة مَنْ خَلَقَكَ (جل وعلا) وتَحْذَر كُلَّ الحَذَرِ من أن ترتكب شيئًا يغضب خالقك ويسخطه، فإذا اتجرت مع الله هذه التجارة في رأس هذا المال فحركته فيما يرضيه ربحت أيها الأخ ربحًا عظيمًا، ربحت الحور العين والولدان، ومجاورة رب غير غضبان، وسكنى الجنة {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17] وقد سمى الله هذه المعاملة معه من عبده سماها: (تجارة) وسماها: (بيعًا) وسماها: (شراءً) وسماها: (قرضًا) قال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: آية 245] وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} وقال: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة: آية 111] وقال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية [الصف: الآيتان 10، 11].
أما إذا كان الإنسان المسكين أحمق أهوج لا يبالي بالعواقب السيئة، ولا يعرف حقيقة الأمر فإنه يَزْدَرِي الجواهر التي أعطاه الله وهي أيام عمره، كصاحب المزبلة تكون عنده اليواقيت وهو يظنها حجارة عادية لا يعرف قيمتها، فيُضَيِّعُ رأس ماله وأيام عمره في قال وقيل، وفيما لا يجدي، حتى تضيع، وربما أعملها فيما لا يرضي خالقه (جل وعلا) حتى ينتهي العمرُ المحددُ له، وينفد رأس ماله، فيُذهب به إلى القبر وهو مفلس لا رأس مالٍ عنده، فإذا عدم رأس المال فالرِّبْحُ مَعْدُومٌ!! والآخرة -أيها الإخوان- دارٌ لا تصلح للمفاليس؛ لأنها ليس فيها إرفاق وليس فيها بيعٌ ولا شراء ولا هبة، ليس فيها للإنسان إلا ما قَدَّمَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ.
لاَ دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلاَّ الَّتِي كَانَ قَبْلَ المَوْتِ يبنِيْهَا
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا (¬1)

فعلى العاقل أن يَتَّجِرَ مَع الله، ولا يضيِّع رَأْسَ مَالِهِ، والعمر كما جعله الله رَأْسَ مَالٍ فمَنْ ضَيَّعَهُ فَقَدْ خَسِرَ الخُسْرَانَ الأَعْظَم، كذلك جعله حجة على العبد؛ ولذا عَدَّهُ مَعَ النذير في قوله في سورة فاطر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: آية 37] فجعل تعمير الإنسان عمرًا يتذَكَّر فيه ويُنِيبُ إلى رَبِّهِ حُجَّةً عليه كالرسول، فعلينا جميعًا ألا نضيع أعمارنا، ونعرف قدر قيمتها، ونُعْمِلُهَا فيمَا نَتَمَتَّعُ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ مِمَّا يُرْضِي خالقنا؛ لأن رأس المال إِنْ ضَاع خَسِرَ الإنسان كل شيء وَنَدِمَ حيث لا ينفع النَّدم.
المثل الثاني الذي ضَرَبَهُ العُلَمَاء لهذا الخسران: هو حديث جاء
¬_________
(¬1) هذان البيتان تقدم ذكرهما عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.

الصفحة 175