كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)
العظيمة لا يُعقل أن الله يهدده هذا التهديد، ويتوعده هذا الوعيد؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيظهر هنا ما ذكره جماعة أنها في طائفة أُشربت قلوبهم حب العجل ولم يتوبوا -والعياذ بالله- ووعدهم الله هذا الوعيد: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ} الجزاء الذي جزينا به هؤلاء الذين عبدوا العجل: {نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} كان العلماء يقولون: كل من افترى في الدين وابتدع في الدين سلط الله عليه الذلة، وكان الحسن يقول في المبتدعين المفترين في دين الله: والله إن الذلة على أكتافهم ولو هملجت بهم البَغْلاَتُ، وطقطقت بهم البراذين (¬1). وقال هذا غير واحدٍ من العلماء، أن كل مبتدع في الدين مفتر فيه آتٍ بِنِحْلَة ليست بحق لا بد أن يسلط الله عليه الذلة ولو بلغ ما بلغ، كما صرح بذلك في قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فعلى المسلم أن يخاف من الذلة والغضب، ولا يفتري في دين الله، ولا ينتحل ولا يبتدع، بل يبقى على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وهذا معنى قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
{وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ} كالذين عبدوا العجل، {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد تلك السيئات، {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ} يعني من بعد ذلك الذي ارتكبوه من السيئات {وَآمَنُواْ} داموا على إيمانهم، أو أخلصوا في إيمانهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: تلك السيئات والفعلات، وقال بعضهم: {مِن بَعْدِهَا} أي: التوبة المفهومة من قوله: {تَابُواْ} {لَغَفُورٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده.
¬_________
(¬1) أورده ابن كثير في التفسير (2/ 248).
الصفحة 185
604