كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

الانفعالات والتأثرات النفسية لا من الأفعال الاختيارية كما هو معروف، فترى البائع المغبون يندم وهو يحاول أن يطرد عنه الندم فلا يستطيع؛ لأن الندم انفعال وتوتر نفساني لا فعل اختياري، ومعروف أن الانفعالات والتأثرات النفسانية ليست تحت قدرة العبد، وقد أجمع العلماء أن الله لا يكلف عبده إلا بفعل اختياري هو في طاقة العبد، ولذلك كان في التكليف بالندم هنا الإشكال المعروف. هذا السؤال الأول في الندم، وأجاب بعض العلماء عن هذا، قالوا: نعم إن الندم انفعال وتأثر نفساني ليس تحت طاقة العبد؛ لأنَّا نرى الإنسان يحاول أن يندم فلا يندم، ويحاول أن يطرد الندم فلا يطرده، يُشاهَد البائع المغبون يحاول أن يطرد الندم عن نفسه، والندم يضعه على الأرض من شدته، وهو لا يقدر أن يدفعه عن نفسه، وكذلك بعض عوام المسلمين قد ينال الواحد منهم قُبْلةً -مثلاً- من امرأةٍ بارعةٍ في الجمال يعشقها غاية العشق، فإذا أراد أن يندم على ذلك دعاه خيال ذلك الجمال ولذة ذلك الشيء القبيح فلا يستطيع أن يندم كما هو مشاهد، وإذا كان انفعالاً لا قدرة للعبد عليه فما وجه التكليف به؟!
أجيب عن هذا: بأن المراد بالتكليف بالندم: التكليف بأسبابه الموصلة إليه، ومَنْ تَعَاطَى أسْبَابَهُ الموصّلة إليه تعاطيًا حقًّا لم يُحابِ فيه نفسه لا بد أن يَنْدَمَ، وَضَرَبَ العلماء لذلك مثلاً، قالوا: كل العقلاء إذا قَدَّمت إلى واحدٍ منهم شرابًا لذيذًا ولكنه فيه السم القَاتل الفتَّاك، فجميع العقلاء لا يستلذُّون ذلك الشراب ولا يعدّون لذته لذة؛ لأن السم القاتل الذي هو فيه يبطل لذته وينفِّر منها، ولا شك أن حلاوات المعاصي -قبّحها الله- ولذاتها تتضمن سمًّا قاتلاً فتَّاكًا

الصفحة 187