كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)
وتُطلق العرب الفلاح على البقاء والدَّوَامِ في النَّعِيمِ، وكل مَنْ بَقِيَ بقاءً سرمديًّا في النعيم تقول له العرب: (أفلح) وتقول لذلك البقاء: (فلاح) ومنه بهذا المعنى قول الأضبط بن قُريع. وقيل: كعب بن زهير (¬1):
لكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُبْحُ لا فَلاَحَ مَعَهْ
يعني: أن تَعَاقُبَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لا بقاء للحَيِّ مَعه، ومنه بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعة أيضًا (¬2):
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الْفَلاَحِ ... لَنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ
يعني: لو أن حيًّا ينال البقاء ولا يموت لناله ملاعب الرماح.
وفي هذين المعنيين بكل منهما فُسِّر حديث الأذان والإقامة في قوله: «حي على الفلاح» فقال بعضهم: (حي على الفلاح) أي: الفوز بالمطلوب الأكبر وهو الجنة. وقال بعضهم: (حي على الفلاح) هَلُمَّ إلَى البَقَاءِ السَّرْمَدِيّ في النعيم الذي لا ينقطع في الجنة؛ لأنكم تنالون ذلك بالمواظبة على الصَّلَوات. وهذا معنى قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كان بعض أفاضل العلماء يقول: هذه الأخيرة وهي قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} هي التي جاءت منها البليَّةُ إلى عَمِّهِ صلى الله عليه وسلم أعني أبا طالب؛ لأن أبا طالب من الذين آمنوا برسول الله، فهو مؤمن برسول الله يقينًا (¬3)، ولا يشك في نبوّته ورسالته، وقد صرح بذلك كثيرًا في شعره كقوله في شعره (¬4):
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (111) من سورة الأنعام.
(¬3) والمقصود يهذا الإيمان: التصديق لكن من غير انقياد وإذعان، وهذا لا يكفي في تحقيق الإيمان.
(¬4) هذا أحد أبيات قصيدته المشهورة التي يذب فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 53 - 57).