كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

فقال صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (¬2) أن سؤال جبريل هذا ليُعَلِّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان أنه سؤال عظيم مُحتاج إليه غاية الحاجة، وذلك أن الله (جل وعلا) بيّن في آيات من كتابه أن الحكمة التي خلق مِنْ أجْلِهَا خَلْقَهُ وسَمَاوَاتِه وأرضه هي أن يبتلي الخلق، أي: يختبرهم في شيء واحد هو إحسانهم العمل ليظهر مَنْ يُحْسِن منهم عمله ومن لا يُحْسِنُهُ، كما قال تعالى في أول سورة هود: {خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ثم بَيَّن الحِكْمَة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] ولم يقل: أيكم أكثر عملاً. وقال في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بيَّن الحكمة بقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أول سورة الملك {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] فاتضح في هذه الآيات أن الإحسان (¬3)
هو الذي خُلقتم من أجل الابتلاء فيه -ولا ينافي هذا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: آية 56] أي: إلا لآمرهم بالعبادة على ألسنةَ رُسُلِي فأبْتَلِي مُحْسِنَهُمْ من غير محسنهم، كما لا يخفى- صار الإحسان محتاجًا إلى معرفته؛ ولذا سأل جبريل عنه وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». والإحسان مصدر أحْسَن العَمَلَ يُحْسِنُهُ إِحْسَانًا: إذا جاء به حَسَنًا مُتْقَنًا
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.
(¬3) السابق ..

الصفحة 265