كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

ذهب الرجال من زائفهم هو الطمع والخوف، فإن المحن التي يظهر بها ذهب الرجال وإِبْرِيزهم إنما هي محن الخوف والطمع، وقد ابتلى الله أمة موسى بالخوف والطمع، وابتلى أمة محمد بالخوف والطمع، فنجحت أمة محمد ولم تنجح أمة موسى؛ لأن الطمع الذي ابتلى الله به بني إسرائيل هو هذه القرية التي ذكرنا، وسيأتي أنهم اصطادوا السمك في السبت فمُسخوا قردة كما يأتي في قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} [الأعراف: آية 166] والعياذ بالله؛ لأنهم لم يصمدوا أمام الطمع، ولم تَقْوَ شكائمهم أمام الطمع، بل ذابوا وانْمَاعُوا أمام طمع شهوة اللحم. وكذلك لما ابتلاهم بالخوف في جهاد الجبارين وقال لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: آية 21] فجبنوا ولم يشجعوا.
وقال تعالى عنهم إنهم قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} [المائدة آية 22] وقد قالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: آية 24] فلم يثبتوا أمام عواصف الطمع، ولم يثبتوا أمام عواصف الخوف، بخلاف هذه الأمة الكريمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلاهم بالطمع بنفس الصيد، وذلك في غزوة الحديبية في ذي القعدة من عام ست، ابتلاهم الله وهم في سفر وشدة قَرَم -أعني شدة شهوة إلى اللحم- ابتلاهم بأن يسر لهم جميع أنواع الصيد وهم محرمون، كبير الصيد وصغيره من أنواع الوحوش والطير وغير ذلك فلم يمد رجل منهم يده إلى شيء من ذلك، فنجحوا ولم تُزعزعهم عواصف الطمع، بل ثبتوا أمامه ثبوت الرجال، وهذا قد تقدم (¬1)
في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة ..

الصفحة 276