كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

والتحقيق في هذا المعنى أن الله خلق للعباد قُدرًا وإرادات يقدرون بها ويريدون، والله (جل وعلا) أقام عليهم الحجة من جميع الوجوه، فتفضّل على بعضهم بالتوفيق، ولم يتفضّل على بعضهم، وتفضُّله فضل منه، وعدم تفضّله بملكه المحض عدل منه، فهو (جل وعلا) يصدُر منه إما فضل وإما عدل، وليس هنالك ظلم لأحد. أما المخلوقون فلا شك أن لهم قُدرًا وإرادات، وعامَّة العقلاء يطبقون على أن هنالك فرقًا بين حركة اليد الاختيارية والحركة الارتعاشية كحركة [المحموم] (¬1) كما لا يخفى على أحد، وأن الله خلق للعبد قدرة وإرادة، وأقدره بتلك القدرة والإرادة على فعل ما يشاء مما هو في مقدوره، إلا أن قدرة الله وإرادته تصرف قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي، فيأتيه العبد طائعًا في غاية الطوع، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: آية 30] فصرح بأن للمخلوقين مشيئة، وأنهم لا يشاءون إلا ما شاءه الله، والله (جل وعلا) قد عَلِمَ في أزَلِهِ ما تَسْتَحِقّه عبيده، فمنهم من هو أهْلٌ لِلْخَيْرِ وفَّقَهُ للخير، ومنهم من هو أهل للشر وفّقه للشر، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سأله أصحابه عن هذه الشبهة، قال: «كل ميسر لما خُلق له» (¬2). والمعنى: أن الله خلقهم وأمرهم وسيوفق كُلاً منهم إلى ما سبق له به العلم الأزلي في الكتاب.
وهذا كلام موجز عن قضية الكسب، فعلينا أن نَعْلَمَ أنَّ اللهَ خَلَقَ لنا قُدرًا وإرادات نؤاخذ بها، وأنّا نأتي الأفعال طائعين، ولنا قدرة
¬_________
(¬1) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [ ... ] زيادة يتم بها الكلام.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.

الصفحة 37