كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

غاية الإنصاف والعدالة؛ وفي هذه الآيات بيَّن أنه طبع على قلب هذا الإنسان، قال في بعض الآيات: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: آية 7] {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: آية 100] {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: آية 57] ومن جُعل على قلبه الطبع والختم، وجُعل في عينه الغشاوة، وفي أذنه الوقر، فهذا في حكم العاجز، فعلى هذا يكون في هذه الآيات شبهة للجبرية، فنحن نقول: إن القرآن العظيم بيّن أن هذا الطبع وهذا الختم والإزاغة النهائية عن الحق لا يأتي الإنسان إلا بسبب ذنب من ذنوبه، فهو جزاء وفاق على بعض الذنوب، وذلك ما دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كثيرة أن الله (جل وعلا) يُسَبِّبُ للإنسان الضَّلالة بِسَبَبِ ارتكاب الذنوب كما يسبب له الهدى بسبب الطاعات، فالعبد إذا سارع إلى الكفر، وتكذيب الرسل، وإلى ما يُسخط الله عاقبه الله بأن زاده ضلالاً فوق ضلاله، وظلامًا على ظلامه، وجاءه هذا الطبع بسبب كفره وبغيه وتمرده على الله.
وقد بيّن (جل وعلا) هذا في آيات كثيرة كقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] (الباء) في قوله: {بِكُفْرِهِمْ} سببية، فبيّن أن هذا الطبع بسبب كفرهم الذي سارعوا إليه، وكقوله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: آية 3] وكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] ما أزاغها بالطبع والختم حتى بادروا إلى الذنوب والكفر فعاقبهم الله وجزاهم جزاء وفاقًا، وكقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: آية 10] وكقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}

الصفحة 39