كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

ليس هو. يريد أن يستأثر بأخذه؛ ليأخذ المال من قريش، فركب على فرسه في أثرهم، وقصته مشهورة، وعلماء التاريخ يقولون: إن فرسه ساخت به في الأرض، وكاد أن تبتلعه الأرض مرات، وأنه طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له أمانًا (¬1) ورجع خائبًا لم ينل النبيَ صلى الله عليه وسلم بسوء. وسافر في الهجرة، ومر في سفره هذا بالجحفة، ونزلت عليه في الطريق في الجحفة آية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬2) [القصص: الآية 85] حتى جاء الأنصار (رضي الله عنهم). وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30].
وفي قصة الهجرة هذا دليل يبين للناس ويوضح لهم حقيقة أمر ضل فيه الآن أكثر الناس؛ لأن غالب الناس الآن -وإنا لله وإنا إليه راجعون- اجترفتهم التيارات، فذهبوا يقلدون كل ناعق من كفرة الإفرنج وملاحدتهم؛ لأنهم رأوا عندهم بعض القوة المادية وبعض الصنائع، ولو كانوا يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون كيف كان يفعل لعرفوا ما يأخذون من ذلك وما يتركون؛ لأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا من الكفار ما ينفعهم من علوم الكفار الدنيوية، وألاّ يتبعوهم في شيء مما يمس دينهم وطاعة ربهم -جل وعلا- وهذا
¬_________
(¬1) البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، حديث رقم: (3652) (7/ 8)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين رقم: (3906، 3908)، ومسلم في الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، حديث رقم: (2009) (4/ 2309)، كما أخرجه في موضع آخر قبله (3/ 1592).
(¬2) أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك مرسلاً (9/ 3026)، وانظر ابن كثير (3/ 402 - 403).

الصفحة 575