كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

إلى السحرة، (غُلبوا هنالك) غلبهم موسى ببرهان العصا لما ابتلعت جميع ما عندهم من الحبال والعصي {وَانقَلَبُواْ} أي: السحرة وكل مَنْ كَانَ مَعهم كفرعون وحزبه {وَانقَلَبُواْ} رجعوا صاغرين؛ أي: أذلاء حقيرين داخرين، وهذا معنى قوله: {وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ} الصاغر: هو وصف من الصَّغَار، والصَّغَار: الهوان والدخور والذلة كما هو معروف، وهذا معنى قوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119)}.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)} [الأعراف: الآيتان 119، 120] بعد أن غُلبوا عرفوا بُرْهَانَ اللهِ وآمَنُوا بالله إيمانًا صحيحًا. وهو أمر في الحقيقة فيه عجب؛ لأنهم أول النهار كانوا يجادلون بالباطل ويعارضون آيات الله بالسِّحْرِ، وفي آخر النهار صاروا من أولياء الله، وصار تعذيب الدنيا وما فيها كله ليس عندهم بشيء لقوة الإيمان الداخل في قلوبهم؛ ولذا هدّدهم فرعون بأعظم تهديد وهو أن يقطع يد الواحد اليمنى ورجله اليسرى ويصلبه على جذع النخلة، وجذع النخلة هو أخشن جذع خلقه الله في الأشجار، وهذا عذاب شديد، ومع هذا احتقروا عذابه ولم يكن عندهم بشيء، كما قال الله عنهم: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: الآيتان 49، 50] أي: لا ضرر علينا في ذلك. حتى قالوا له في سورة طه: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: آية 72] أي: وليس فيها شيء يهم؛ [لسرعة زوالها] (¬1) وانقضائها، نحن نرغب فيما عند الله، ولا نبالي بما في الدنيا، كما يأتي في قوله: {قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)} [الأعراف: آية 125] ونحو ذلك.
¬_________
(¬1) في الأصل: لزوال سرعتها. وهو سبق لسان.

الصفحة 87