كتاب البصائر والذخائر (اسم الجزء: 4)

تبذير. فانج بنفسك إلى الله الذي يحرسك وأنت حالم، ويستأنيك وانت ظالم، ويدعوك إلى حظك وأنت شامس، ويعطفك على مصلحتك وأنت حائس، ويطلف بك وأنت عائف، ويؤمنك وأنت خائف، ويهديك وقد ضللت، وينعضك وقد زللت، ويقويك وقد كللت، وينشطك وقد مللت، أفيجحد من هذا إحسانه، أم يجفى من هذا نظره، أم يهرب عمن هذا عطاؤه، أم يستزاد من هذا ابتداؤه، أم تعشق الدنيا جهلاً بمن هذا معروفة؟ لا والله، ولكن لج بهذا الإنسان طغيانه، وأرخة في يده عنانه، فجرى طلق الجموح، ثم أن أنين المجروح، حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
فخذ أيها السامع حذرك، واعلم أن ربك بالمرصاد، وأنت منه على ميعاد، واعلم أن أخذه أليم شديد، وإنما يملي لك لتزداد إثماً، ويستدرجك من حيث لا تعلم. وإذا ولج هذا الكلام سمعك، ووقر في صدرك، وتغلغل في فؤادك، وبلغ حاشية روحك، فاندب نفسك، وابك أيامك، وتلهف على ماضي عمرك، وكفكف عبرات عينك، واخل بشجوك وأشجانك، وأبك على تفريطك، فإذا قضيت من ذلك كله وطرك، فعسى الله أن يراك فيعذرك.
ثم ابدأ قبل كل دقيقة وجليلة بطي الأمل وتقصيره، واقمع غربة بحلول الأجل وتكديره، واعلم أنك متى ظفرت من أملك بالقصور، انتظم أمرك، ورجي خيرك، وكان الله كافلك وناصرك؛ ثم ثن تقصير الأمل ببعض الدنيا، ومقت ما زينها في عينك، وحلاها في نفسك، وخبل عليها سلطان عقلك، وغض دونها طرف يقينك؛ ثم ثلث بهجران المتشاغلين عن مهلك، والمزينين لشهوتك، والمتناولين في مرادك، فإن الناس لم يؤتوا في دنياهم إلا من الناس، إن الناس شر من الأفاعي والجرارات والعقارب والسباع. ومتى أحببت أن تعرف

الصفحة 11