كتاب تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (اسم الجزء: 4)
بتوطئة «ما» كما توطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين» بالهمزة، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشبية «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهي شاذة، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية فيقوم عذرها، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى فَقُولِي بالإشارة لا بالكلام وإلا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت» . وقال قوم معناه صَوْماً عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر: [البسيط] «خيل صيام» وأخرى غير صائمة وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام، وقرأت فرقة «إني نذرت للرحمن صمتا» ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتا، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام. قال المفسرون: أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
روي أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه، روي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و «الفري» العظيم الشنيع، قاله مجاهد والسدي، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري فمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل، و «الفري» من الأسقية الجديد، وقرأ أبو حيوة «شيئا فريا» بسكون الراء، واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل، يا أُخْتَ هارُونَ، فقالت فرقة كان لها أخ اسمه هارُونَ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل، تبركا باسم هارون أخي موسى، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم «أخت هارون» وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، فالمعنى أنه اسم وأفق اسما، وقال السدي وغيره: بل نسبوها إلى «هارون» أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخا فلانة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» ، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب «أخت لهارون» أخي موسى، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو أصدق وخير، وإلّا فإني أجد
الصفحة 13
581