كتاب تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (اسم الجزء: 4)

أصعب وجوهه، والضمير في قوله لَنَحْشُرَنَّهُمْ عائد للكفار القائلين ما تقدم، ثم أخبر أنه يقرن بهم الشَّياطِينَ المغوين لهم. وقوله جِثِيًّا جمع جاث كقاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثووا وليس في كلام العرب واو متطرفة قبلها ضمة فوجب لذلك أن تعل، ولم يعتد هاهنا بالساكن الذي بينهما لخفته وقلة حوله فقلبت ياء فجاء جثويا فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت ثم كسرت التاء للتناسب بين الكسرة والياء. وقرأ الجمهور «جثيا» و «صليا» [مريم: ٧٠] بضم الجيم والصاد، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «جثيا» و «صليا» [ذاته] بكسر الجيم والصاد وأخبر الله تعالى أنه يحضر هؤلاء المنكرين للبعث مع الشياطين فيجثون حول جهنم وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه كالأسير.
ونحوه قال قتادة جِثِيًّا معناه على ركبهم وقال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، و «الشيعة» الفرقة المرتبطة بمذهب واحد المتعاونة فيه كأن بعضهم يشيع بعضا أي ينبه، ومنه تشييع النار بالحطب وهو وقدها به شيئا بعد شيء، ومنه قيل للشجاع مشيع القلب فأخبر الله أنه ينزع مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أعتاها وأولاها بالعذاب فتكون تلك مقدمتها إلى النار. قال أبو الأحوص: المعنى نبدأ بالأكابر فالأكابر جرما، ثم أخبر تعالى في الآية بعد، أنه أعلم بمستحقي ذلك وأبصر لأنه لم تخف عليه حالهم من أولها إلى آخرها. وقرأ بعض الكوفيين ومعاذ بن مسلم وهارون القاري «أيّهم» بالنصب، وقرأ الجمهور «أيّهم» بالرفع، إلا أن طلحة والأعمش سكنا ميم «أيهم» واختلف الناس في وجه رفع «أي» ، فقال الخليل رفعه على الحكاية بتقدير الذي يقال فيه من أجل عتوه «أيّهم» أشد وقرنه بقول الشاعر: [الكامل]
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم. ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في قوله في هذه المسألة، قال سيبويه: ويلزم على هذا أن يجوز أضرب السارق الخبيث أي الذي يقال له ع: وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة، ومذهب سيبويه أن «أيّهم» مبني على الضم إذ هي أخت «الذي ولما» وخالفتهما في جواز الإضافة فيها فأعربت لذلك، فلما حذف من صلتها ما يعود عليها ضعفت فرجعت إلى البناء، وكأن التقدير «أيّهم» هو أشد. قال أبو علي: حذف ما الكلام مفتقر إليه فوجب البناء، وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، قال أبو علي: معنى ذلك أنه معمل في موضع من كل شيعة إلا أنه ملغى لأنه لا تعلق جملة إلا أفعال الشك كظننت ونحوها مما لم يتحقق وقوعه، وقال الكسائي لَنَنْزِعَنَّ أريد به لننادين فعومل معاملة الفعل المراد فلم يعمل في «أي» ، وقال المبرد «أيّهم» متعلق ب شِيعَةٍ فلذلك ارتفع، والمعنى من الذين تشايعوا «أيّهم» أشد كأنهم يتبارون إلى هذا ويلزمه أن يقدر مفعولا ل «ننزع» محذوفا. وقرأ طلحة بن مصرف «أيهم أكبر» . وعِتِيًّا مصدر أصله عتووا وعلل بما علل جِثِيًّا وروى أبو سعيد الخدري «أنه يندلق عنق من النار فيقول إني أمرت بكل جبار عنيد» فتلتقطهم الحديث.
قوله عز وجل:

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)

الصفحة 26