كتاب تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (اسم الجزء: 4)
ومَرْيَمَ
هي بنت عمران أم عيسى أخت أم يحيى واختلف الناس لم انْتَبَذَتْ
والانتباذ التنحي. فقال السدي انْتَبَذَتْ
لتطهر من حيض، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن، وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله شَرْقِيًّا
يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها، حكاه الطبري. وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عز وجل إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة، وقال بعض الناس «الحجاب» هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات، وقيل من ثياب، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب، و «الروح» جبريل، وقيل عيسى، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها، ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها، قال النقاش ومن قرأ «روحنّا» مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك، وقيل لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها لملك، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر. وقوله تعالى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
الآية، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ
ذا تقى، قال أبو وائل علمت أن «التقي» ذو نهية، وقال وهب بن منبه «تقي» رجل فاجر كان في ذلك الزمن في قومها فلما رأته متسورا عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه، حكى هذا مكي وغيره، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص، فقال لها جبريل عليه السلام إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ الجمهور «لأهب» كما تقدم، وقرأ عمرو ونافع «ليهب» بالياء أي ليهب الله لك، واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود «ليهب الله لك» ، فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و «البغي» ، المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلا لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)
المعنى قال لها الملك كَذلِكِ هو كما وصفت ولكن قالَ رَبُّكِ ويحتمل أن يريد على هذه الحال قالَ رَبُّكِ والمعنى متقارب والآية العبرة المعرضة للنظر، والضمير في قوله لِنَجْعَلَهُ للغلام، وَرَحْمَةً مِنَّا معناه طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز،
الصفحة 9
581