كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 4)

غُيّرا عمّا كانا عليه في الإفراد بأن حُذفت الهمزة، ووصلت "مِنْ" بالذال، وضُمّت الميم، فصارت "مُنْذُ". وفرقوا بذلك بين حال الإفراد والتركيب. والذي حملهم على ذلك قولُ بعض العرب في "مُنْذُ": "مِنْذُ" بكسر الميم، يدلّ أن الأصل "مِنْ". وذهب الفرّاء منهم إلى أنها مركّبة من "مِنْ"، و"ذُو"، التي بمعنَى "الَّذِي"، وهي لغة طَيِّىءٍ، نحوُ قول الشاعر [من الوافر]:
فإنّ الماء ماءُ أبي وجَدِّي ... وبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وذُو طَوَيْتُ (¬1)
ثمّ حذف الواو تخفيفًا، وبقيت الضمّة تدل عليها.
والصواب ما ذكرناه من أنها مفردة غير مركّبة عَمَلًا بالظاهر. ونحن إذا شاهدنا ظاهرًا يكون مثلُه أصلًا؛ قضينا بالشاهد، وإن احتمل غيرَ ذلك، إذا لم تقم بيّنةٌ على خلافه. ألا ترى أن سيبويه حكم على الياء في "سِيدٍ" وهو الذئْب بأنّها أصلٌ، وجعلها من باب "فِيل"، و"دِيكٍ"، ولم يجعلها من باب "رِيحٍ"، و"عِيدٍ"، مع أنه ليس لنا كلمةٌ مركّبة من "س ي د" عملًا بالظاهر؟ فلا يجوز تركُ حاضرٍ متيقَّنٍ له وجةٌ من القياس إلى أمرٍ محتمَل مشكوك فيه لا دليلَ عليه.
فأمّا كسر الميم من "منذ"، فلا دليل فيه؛ لأنه لغةٌ كالضمّ، وإن كان الضمّ أشهرَ. وممّا يُبْطِل قول الفراء أنّ "ذُو" بمعنَى "الذي" إنّما يستعملها بنو طيِّىء لا غير، و"مُنْذُ" يستعملها جميع العرب، فكيف يركّبون كلمة يستعملها جميعُهم من كلمةٍ مختلَفٍ فيها بينهم.
واعلم أنهم قد اختلفوا في ارتفاع الاسم الواقع بعد "مُنْذُ"، و"مُذْ"، فذهب قوم من الكوفيين (¬2) إلى أن الاسم يرتفع بعدهما بإضمار فعل، قالوا: لأن "منذ" مركبة من "مِنْ" و"إذْ"، و"إذ" تُضاف إلى الفعل والفاعل كثيرًا، نحوَ قولك: "إذ قام زيدٌ"، و"إذ قعد بكرٌ". ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} (¬3)، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} (¬4)، وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} (¬5). فلذلك كان الاسم المرتفع بعدها بتقدير فعل، والمراد: "مذ مضى يومان"، و"مذ مضت ليلتان". قالوا: ولذلك يُستعمل الفعل بعدها، فتقول: "ما رأيته مذ وُجد"، و"مذ كان كذا وكذا"، باعتبارِ "إذْ"، والخفضُ باعتبارِ "مِنْ". قالوا: ولذلك كان الخفض بـ "مُنْذُ" أكثر منه بـ "مُذْ"؛ لظهور نون "مِنْ".
¬__________
(¬1) تقدم بالرقم 493.
(¬2) انظر المسألة السادسة والخمسين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" ص 382 - 393.
(¬3) الأحزاب: 7.
(¬4) البقرة: 34.
(¬5) المائدة: 116.

الصفحة 507