كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 4)

وذلك ضعيفٌ، لأن "منذ" لابتداء الغاية في الزمان، فلا يقع بعدها إلَّا الزمان، فإذا وقع بعدها فعلٌ، فإنّما هو على تقدير زمانٍ محذوفٍ مضافٍ إلى الفعل. فإذا قلت: "ما رأيتُه مذ كان كذا"، فالتقدير: مذ زمانُ كان كذا، فحذف المضاف، وأُقيم الفعل مقامه خبرًا. ولذلك قال سيبويه: وممّا يُضاف إلى الفعل قوله: "منذ كان كذا"، وليس مراده أنّ "مُذْ" مضافة إلى الفعل، لأن الفعل لا يُضاف إليه إلَّا الزمان.
فلو كانت "إذْ" مضافة إلى الفعل؛ لكانت اسمًا، و"مُذْ"، إذا كانت اسمًا؛ لم تكن إلَّا مبتدأً، ولذلك لم يُجِز أبو عثمان الإخبار عن "مُذْ"؛ لأن الإخبار عنها يجعلها خبرًا، و"مُذْ" لا تكون إلَّا مبتدأً.
وقال الفرّاء: الاسم يرتفع بعد "مُذْ" بأنّه خبر مبتدأ محذوف. قال: لأن "منذ" مركّبةٌ كما قدمناه من "مِنْ"، و"ذُو"، التي بمعنَى "الذي"، و"الَّذِي" توصَل بالمبتدأ والخبرِ، وقد يحذف في المبتدأ العائدُ، والتقدير: "ما رأيته مذ هو يومان"، على نحو قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا". والمراد: "بالذي هو قائلٌ". ومنه قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬1) في قراءةِ من رفع "أحسن"، وقوله تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬2)، أي: التي هي بعوضةٌ.
وهذان قولان بُنيا على أصل فاسد، وهو القول بالتركيب، وقد أبطلناه، مع أن "إذ" تُضاف إلى المبتدأ كما تُضاف إلى الفعل والفاعل، فليس تقدير المحذوف فِعْلًا بأوْلى من أن يكون اسمًا مبتدأً.
وأمّا قولهم: إنه يستعمل بعدها الفعل كثيرًا، نحوَ: "ما رأيته مذ قَدِمَ"، ونحوِ ذلك، فهو عندنا على حذفِ مضاف.
و"ذُو" في لغةِ طَيىء تُوصَل بالفعل والفاعل كما توصل بالمبتدأ والخبر، فليس تقدير المحذوف مبتدأً بأوْلى من أن يكون فعلًا، فتعيينُ الصلة مبتدأ وخبرًا دون الفعل تحكّمٌ، مع أن حذف المبتدأ إذا كان صلة، وهو العائد قبيحٌ. إنما جاز منه ألفاظٌ شاذّةٌ تُسْمَع، ولا يُحْمَل عليها ما وُجد عنه مندوحةٌ.
والصواب ما ذهب إليه البصريون من أنّ ارتفاعه بأنّه خبرٌ، والمبتدأ "مُنْذُ"، و"مُذْ". فإذا قلت: "ما رأيتُه مذ يومان"، كالك قلت: "ما رأيتُه مذ ذلك يومان"، فهما جملتان
¬__________
(¬1) الأنعام: 154. وهي قراءة الحسن والأعمش ويحيى بن يعمر وغيرهم.
انظر البحر المحيط 4/ 255؛ وتفسير الطبري 12/ 236؛ وتفسير القرطبي 7/ 142؛ والكشاف 2/ 49؛ ومعجم القراءات القرآنية 2/ 335.
(¬2) البقرة: 26.

الصفحة 508