كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 4)

وبنو رَواحَةَ ينظرون إذا ... نَظَرَ النَّدِيُّ بآنُفِ خُثْمِ
حاشا أبي ثَوْبانَ إنّ أبَا ... قابوسَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمٍ
عمرَو بن عبد الله إنَّ به ... ضِنَّا عن المَلْحاة والشَّتْمِ
الشاهد فيه جرّ "أبي ثوبان" بـ "حاشا". وسببُ هذه الأبيات أن نضلة بن الأشتر كان جارًا لبني هدم بن عَوف، فقتلوه غَدْرًا، فَنَعَى عليهم جميحٌ ذلك.
شاهت: قبُحت، والشَّوْهُ: قُبْحُ الخِلْقة. وقوله: "متنظّمين"، أي: في سِلْكٍ واحدٍ. وبنو رَواحَةَ: فَخِذٌ من بني عَبْسٍ. والنادي، والنَّدِيُّ: المَجْلِس. والمراد: أهْلُ النديّ. والآنُفُ الخُثْمُ: العِراضُ ليست بشُمّ. وقوله: "إنّ به ضِنًّا" أي: يضِنّ بنفسه عن الملحاة والشَّتْمِ. والمَلْحاةُ: المَفْعَلة من "لَحَوْتُ الرجلَ"، إذا ألححتَ عليه باللائمة. وعمرو بن عبد الله بدلٌ من "أبا قابوس"، ومُنع "قابوس" من الصرف ضرورةً لِما فيه من التعريف.
ولم يَحْكِ سيبويه في "حاشا" إلَّا الجرَّ، ولم يُجِز النصب بها. وقد خالَفَه جماعةٌ من الفريقَيْن في ذلك، فذهب أبو العبّاس المبرّد، وهو قول أبي عمرو الجَرْميّ والأخفش إلى أنها تكون حرف خفض كما ذكر سيبويه، نحوَ قولك: "أتاني القوم حاشا زيدٍ"؛ لأن المعنى: "سِوَى زيدٍ". وقد تكون فعلًا من "حاشَيْتُ"، فتنصب ما بعدها بمنزلة "خَلا"، و"عَدا"؛ لأنك إذا قلت: "أتاني القوم"، وقع في نفس السامع أن زيدًا فيهم، فأردت أن تُخْرِج ذلك من نفسه، فقلت: "حاشا زيدًا"، أي: جاوَزَ مَن أتاني زيدًا، فيكون في "حاشا" ضميرُ فاعل لا يُثنَّى، ولا يُجْمَع، ولا يؤنّث، و"زيدٌ" لم يأتك لأنه استثناءٌ من موجَب.
وكذلك إذا قلت: "لقيت القومَ حاشا خالدًا"، فخالدٌ لم تلقه. وإذا قلت: "ما مررت بالقوم حاشا خالدًا" فخالدٌ ممرورٌ به؛ لأنه استثناءٌ من منفيّ. والحجّة للقول بأنّها فعلٌ أنها تتصرّف تصرُّفَ الأفعال، فتقول: "حاشَيْتُ، أُحاشِي"، كما تقول: "رامَيْتُ أُرامِي". قال النابغة [من البسيط]:
وَلَا أرَى فاعِلًا في الناس يُشْبِهُهُ ... ولا أُحاشِي من الأقْوامِ من أحدِ (¬1)
هذا استدلال أبي العباس، قال: فإذا قلت: "حاشا لزيدٍ"، فلا يكون "حاشا" إلَّا فعلًا؛ لأنه لو كان حرفًا؛ لم يدخل على حرف مثله. وكذلك "حاشا لله"، فإذا استُعمل بغير لام؛ جاز أن تكون فعلًا، فتنصب، وجاز أن تكون حرف خفض. قالوا: وممّا يؤيّد كونها فعلًا قولُهم: "حَاشَ"، بغير ألف، نحوُ قوله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} (¬2) في قراءة
¬__________
(¬1) تقدم بالرقم 305.
(¬2) يوسف: 31، 51.

الصفحة 511