كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 4)

الجماعة ما عدا أبا عمرو (¬1)، والحذفُ لا يكون في الحروف، إلَّا فيما كان مضاعفًا، نحوّ: "إنَّ"، و"رُبَّ". وقد جاء في الأفعال كثيرًا، وفي الأسماء، نحوَ: "غَدٍ"، و"يَدٍ". والذي حسّنه هنا كونُ الألف منقلبةً عن الياء، والياءُ ممّا يسوغ حذفُه.
وممّا يؤيد ذلك ما حكاه أبو عمرو وغيره أنَّ العرب تخفض بها، وتنصب، حُكي عنهم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، ولِمن سمع حاشا الشيطانَ، وابنَ الأصْبَغِ". وهذا نصٌّ. وابن الأصبغ بالصاد غير المعجمة والغين المعجمة كان يُسْتَيْطِعُ. وقال الزجّاج: "حاشا لله" في معنى "بَراءةً لله"، وهي من قولهم: "كنت في حَشَى فلانٍ"، أي: في ناحيةِ فلان. قال الشاعر [من الطويل]:
بأيً الحَشَا أمْسَى الخَلِيطُ المُبايِنُ (¬2)
فإذا قال: "حاشى لفلانٍ"، فكأنّه قال: "تَنحّى زيدٌ من هذا المكان، وتَباعد"، كما أنّك إذا قلت: "تَنَحّى من هذا المكان"، فمعناه: صار في ناحيةٍ منه أُخرى. والصواب ما ذهب إليه سيبويه، وذلك أنها لو كانت فعلًا بمنزلةِ "خَلا"، وَ"عَدا"؛ لَجاز أن تقع في صلةِ "ما"، فتقول: "أتاني القوم ما حاشى زيدًا"، كما تقول: "ما خلا زيدًا"، و"ما عدا عمرًا". فلمّا لم يجز ذلك؛ دلّ أنها حرفٌ. وأمّا قوله [من البسيط]:
وما أُحاشِي من الأقوام من أحد (¬3)
فيجوز أن يكون تصريفَ فعل من لفظ "حاشا" الذي هو حرفٌ يُستثنى به، ولا يقع الاستثناء بـ "حَاشَى يُحاشِي"، فنزلّ "حاشى يحاشي" منزلةَ "هَلَّلَ" من "لَا إلهَ إلَّا اللهُ"، و"سَبْحَلَ" من "سُبْحانَ الله"، و"حَمْدَلَ" من "الحمدُ لِله"، فيكون المراد أنه لفظٌ بـ "لَا إله إلَّا اللهُ"، و"سبحان الله"، و"الحمد للهِ"، وكذلك يكون التصرّف في قوله: "أُحاشِي"، أي: لا أستثني بحاشا أحدًا.
وأمّا دخول لام الجرّ، فعلى سبيل الزيادة والعوض من لام الفعل؛ وأمّا حذف الآخِر منه فلضربٍ من التخفيف وطول الكلمة. وكان الفرّاء من الكوفيين يزعم أن "حاشا" فعلٌ، لا فاعلَ له، فإذا قلت: "حاشا لله"، فاللام موصلةٌ لمعنى الفعل، والخفضُ بها. فإذا قلت: "حاشا اللهِ"، بحذف اللام، فاللام مرادةٌ، والخفضُ على إرادتها، وهذا ضعيف عجيب أن يكون فعلٌ بلا فاعل. وأمّا قوله بأن الخفض بها وتقديرِها، فضعيفٌ؛ لأن حرف الجرّ إذا حُذف لا يبقى عملُه إلَّا على نَدْرةٍ، فاعرفه.
¬__________
(¬1) وقد قرأ أيضًا بالألف ابن محيصن واليزيدي وغيرهما.
انظر: البحر المحيط 5/ 303؛ وتفسير الطبري 12/ 123؛ وتفسير القرطبي 9/ 181؛ والكشاف 2/ 317؛ والنشر في القراءات العشر 2/ 295؛ ومعجم القراءات القرآنية 3/ 166.
(¬2) تقدم بالرقم 306.
(¬3) تقدم بالرقم 305.

الصفحة 512