كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 4)

وهذه اللام لا تدخل إلَّا في خبر المكسورة, لأنها أُختها في المعنى، وذلك من جهتَيْن: إحداهما: أنَّ "إنَّ" تكون جوابًا للقسم، واللام يُتلّقى بها القسمُ.
والجهة الثانية: أنَّ "إنَّ" للتأكيد، واللام للتأكيد، فلمّا اشتركا فيما ذكرنا؛ ساغ الجمع بينهما لاتّفاق معنيَيْهما.
فإن قيل: فقد قرّرتم أنّهم لا يجمعون بين حرفين بمعنى واحد، فكيف جاز الجمع بينهما ههنا؟ وما الداعي إلى ذلك؟ قيل: إنّما جمعوا بينهما مبالغةً في إرادة التأكيد، وذلك أنّا إذا قلنا: "زيدٌ قائمٌ"، فقد أخبرنا بأنّه قائمٌ لا غير، وإذا قلنا: "إنّ زيدًا قائمٌ"، فقد أخبرنا عنه بالقيام مؤكَدًا، كأنّه في حكم المكرَّر، نحوِ: "زيدٌ قائمٌ، زيدٌ قائمٌ". فإن أتيت باللام، كان كالمكرّر ثلاثًا، فحصلوا على ما أرادوا من المبالغة في التأكيد وإصلاح اللفظ بتأخيرها إلى الخبر.
ولا تدخل هذه اللام في سائر أخواتها من "كَأنَّ"، وَ"لَعَلَّ"، و"لكِنَّ"، فلا تقول: "كأنَّ زيدًا لَقائمٌ"، ولا "لعلّ بكرًا لَقادمٌ"، ولا "لكنّ خالدًا لَكريمٌ"؛ لأن هذه الحروف قد غيّرت معنى الابتداء، ونقلتْه إلى التشبيه، والترجّي، والاستدراك. وهذه اللامُ لام الابتداء، فلا تدخل إلَّا عليه، أو ما كان في معناه.
وقد ذهب الكوفيون إلى جواز هذه اللام في خبرِ "لكِنَّ" (¬1)، واستدلّوا على جوازه بقول الشاعر، أنشده حميد بن يحيى [من الطويل]:
[يَلُومُونَنِي في حُبِّ لَيْلَى عَوَاذِلِي] ... ولكنّني من حبِّها لعميد
ويقولون: "لَكِنَّ"، أصلها "إنَّ" زيدت عليها اللام والكاف، وذلك ضعيف. وذلك أنّا إنما جوّزنا دخول اللام في خبرِ "إنَّ" لاتّفاقهما في المعنى، وهو التأكيد، وأنّها لم تُغيِّر معنى الابتداء، فجاز دخول اللام عليها كما يجوز مع الابتداء المحض في نحوِ: "لَزيدٌ قائمٌ". وأمّا "لكِن" فقد أحدثت استدراكًا، وليس ذلك في اللام. والتأكيدُ وَفْقُ المؤكَّد، فهي تُخالِفه بزيادةٍ أو نقصٍ خرج عن التأكيد.
وأمّا القول بأنّها مركّبة، فليس ذلك بالسهل ولا دليل عليه. وأمّا البيت الذي أنشده فشاذّ قليل، وصحّةُ مَحْمَله على أنّه أراد "لكِن" الخفيفةَ، فأتي بـ "إنَّ" بعدها، والتقدير: ولكنْ إنّني، فحذفت الهمزة تخفيفًا، وادّغمت النون في النون، فقيل: "وَلكِنَّنِي" على حدّ قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} (¬2)، والأصل: "لكن أنا هو الله"،
¬__________
(¬1) انظر المسألة الخامسة والعشرين في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص 208 - 218.
(¬2) الكهف: 38.

الصفحة 534