كتاب حاشية البجيرمي على شرح المنهج = التجريد لنفع العبيد (اسم الجزء: 4)
(إلَّا سَكْرَانُ) ، فَيَصِحُّ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ صِحَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى. وَأَجَابَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ فِي تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ هُوَ فِي أَوَائِلِ السُّكْرِ، وَهُوَ الْمُنْتَشِي لِبَقَاءِ عَقْلِهِ وَانْتِفَاءِ تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ؛ لِانْتِفَاءِ الْفَهْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّكْرَانِ الَّذِي يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَنَحْوُهُمَا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَا أَثِمَ بِهِ مِنْ شَرَابٍ، أَوْ دَوَاءٍ وَيُرْجَعُ فِي حَدِّهِ إلَى الْعُرْفِ فَإِذَا انْتَهَى تَغَيُّرُ الشَّارِبِ إلَى حَالَةٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّكْرَانِ عُرْفًا فَهُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ، وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ (وَاخْتِيَارٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَلْزَمُهُ عَدَمُ حُرْمَةِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ فَكَأَنَّ الْحَدِيثَ قَالَ: إذَا طَلَّقَ الصَّبِيُّ زَوْجَتَهُ، ثُمَّ بَلَغَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي الْبَقِيَّةِ، فَلَوْ أَوْقَعْنَا عَلَيْهِمْ الطَّلَاقَ لَزِمَ تَحْرِيمُ زَوْجَاتِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَرَتَّبَ خِطَابُ التَّكْلِيفِ عَلَى خِطَابِ الْوَضْعِ رُفِعَ عَنْهُمْ أَيْضًا بِالنَّظَرِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ.
(قَوْلُهُ: إلَّا السَّكْرَانَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمَفْهُومِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. (قَوْلُهُ: مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ) أَيْ: تَعَلُّقِهَا بِالْأَسْبَابِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ، فَلَا يَرِدُ الْمَجْنُونُ الْمُتَعَدِّي فَإِنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ مَعَ تَعَدِّيهِ، لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّ عَقْلَهُ بَاقٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِحِ بَعْدُ وَهُوَ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَمْيِيزُهُ. اهـ، وَقَالَ م ر: بِمَعْنَى أَنَّ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ أَسْبَابٌ مُعَرِّفَاتٌ لِلْأَحْكَامِ بِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهَا. اهـ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ طَلَاقَهُ عَلَامَةً عَلَى الْمُفَارَقَةِ وَقَتْلَهُ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَإِتْلَافَهُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَقَتْلِ الصَّبِيِّ، وَإِتْلَافِهِ شَوْبَرِيٌّ، وَالْحُكْمُ هُنَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَسَبَبُهُ التَّلَفُّظُ بِهِ كَمَا فِي ع ش عَلَى م ر أَيْ: فَهُوَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَمَعْنَى خِطَابِ الْوَضْعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهُ فِي شَرِيعَتِهِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ لَهُ بِقَرِينَةٍ وَلِتَقْرِيبِ الْأَحْكَامِ تَيْسِيرًا لَنَا. اهـ شَوْبَرِيٌّ. يَعْنِي أَنَّ الشَّارِعَ أَسْنَدَ الْأَحْكَامَ إلَى أَسْبَابِهَا بِجَعْلِهَا عَلَامَةً عَلَيْهَا لِتَسْهِيلِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ بِلَا أَسْبَابٍ لَصَعُبَ فَهْمُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَقَوْلُهُ: وَضْعُهُ أَيْ: وَضْعُ مُتَعَلَّقِهِ كَالْأَسْبَابِ وَفُسِّرَ خِطَابُ الْوَضْعِ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا أَوْ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَقَوْلُهُ: بِالْأَسْبَابِ أَيْ: الْمُنْضَمِّ إلَيْهَا قَصْدُ التَّغْلِيظِ لِيَخْرُجَ الصَّبِيُّ، وَنَحْوُهُ كَالنَّائِمِ، فَانْدَفَعَ مَا لِلْحَلَبِيِّ مِنْ إيرَادِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ (قَوْلُهُ: الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْجُوَيْنِيُّ) أَيْ: اسْتَدَلَّ بِهِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْمُنْتَشِي) أَيْ: الْمُبْتَدِئُ فِي أَوَّلِ السُّكْرِ، وَقَوْلُهُ: لِبَقَاءِ عَقْلِهِ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدُ {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَشِيَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ نَهْيُ الْمُنْتَشِي عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ ح ل. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُنْتَشِي الَّذِي صَحْوُهُ يَسِيرٌ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ فَنُهِيَ عَنْ ابْتِدَائِهَا؛ لِئَلَّا تَبْطُلَ فِي أَثْنَائِهَا بِتَغَيُّرِ حَالِهِ شَيْخُنَا.
(قَوْلُهُ: وَانْتِفَاءُ تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ لِانْتِفَاءِ الْفَهْمِ) وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ السَّكْرَانَ مُكَلَّفٌ أَرَادَ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ ح ل أَيْ: فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مُكَلَّفًا عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ مُخَاطَبًا خِطَابَ تَكْلِيفٍ حَالَ عَدَمِ فَهْمِهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُكَلَّفٌ أَرَادَ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حُكْمًا أَيْ: تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ قَالَ م ر: وَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَأَقَرَّهُ جَمْعٌ مِنْ عَدَمِ نُفُوذِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ بِالْكِنَايَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ، وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ مِنْهُ، فَمَحَلُّ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ السَّابِقِ إنَّمَا هُوَ بِالصَّرِيحِ فَقَطْ مَرْدُودٌ بِمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ بِأَنَّ الصَّرِيحَ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَصْدُ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ كَمَا تَقَرَّرَ، وَالسَّكْرَانُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَمَا أَوْقَعُوهُ بِهِ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ فَكَذَلِكَ هِيَ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهِ شَرْحُ م ر، وَقَوْلُهُ: فَكَذَلِكَ أَيْ: الْكِنَايَةُ فَيَقَعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَوَى، سَوَاءٌ أَخْبَرَ فِي حَالِ السُّكْرِ أَوْ بَعْدَهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: مِنْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ) مِثْلُهُ مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْوُقُوعَ مِنْهُ يُزِيلُ عَقْلَهُ كَمَا فِي سم وَع ش فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِبَ ذَلِكَ مُكْرَهًا أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْكِرٌ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ ح ل.
(قَوْلُهُ: أَوْ دَوَاءٍ) مَحَلُّهُ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلدَّوَاءِ فَإِنْ تَعَيَّنَ بِأَنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي. (قَوْلُهُ: وَيُرْجَعُ فِي حَدِّهِ إلَى الْعُرْفِ) اُنْظُرْهُ مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْحَدِّ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَائِدَتُهُ رَاجِعَةٌ لِلتَّعْلِيقِ كَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ عَلَى سُكْرِهِ، فَإِنَّ زَوْجَتَهُ لَا تَطْلُقُ إلَّا إنْ وَصَلَ لِلْحَدِّ الْعُرْفِيِّ ح ل. نَعَمْ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ إذَا كَانَ السُّكْرُ بِلَا تَعَدٍّ لِأَجْلِ سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ حِينَئِذٍ. (قَوْلُهُ: فَهُوَ مَحَلُّ الْكَلَامِ) أَيْ: الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ هَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ أَوْ غَيْرُ مُكَلَّفٍ؟ . اهـ شَيْخُنَا. (قَوْلُهُ: وَاخْتِيَارُ) قَالَ الشَّيْخُ تَوَهَّمَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِقَيْدِ الِاخْتِيَارِ مَعَ قَيْدِ التَّكْلِيفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالتَّكْلِيفِ الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ لَا الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِمْ: الْمُكْرَهُ
الصفحة 3
452