كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 4)

وَهَذَا مَكَانٌ تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، فَقَالَا: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ. وَاحْتَجَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ بَعْدُ -: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا مُجْمِعَانِ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَلْسًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ؛ وَأَنَّ مَالَهُ بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَكِسْوَةٍ، وَبَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ، تَصَرُّفَ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ؛ فَلَوْلَا أَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ مَا حَلَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِيهِ. وَهُمْ كَثِيرًا يُعَارِضُونَ السُّنَنَ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ، كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَحَدِيثِ الْعِتْقِ فِي السِّتَّةِ الْأَعْبُدِ بِالْقُرْعَةِ وَحَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَيْتَ شِعْرِي. فِي أَيِّ الْأُصُول وَجَدُوا مَالًا مَحْكُومًا بِهِ لِإِنْسَانٍ مَمْنُوعًا مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ مُطْلَقَةً عَلَيْهِ يَدُهُ فِي بَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى -؛ وَهُوَ لَيْسَ لَهُ. أَمْ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَجَدُوا هَذَا. أَمْ فِي أَيِّ الْقُرْآنِ. أَمْ فِي غَيْرِ قِيَاسٍ؟ وَمِمَّنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ: أَبُو ثَوْرٍ، وَغَيْرُهُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ؛ وَالشَّافِعِيَّ: مُجْمِعَانِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ، عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ؛ فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطَا الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ.
وَأَيْضًا - فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِ الْمُكَاتَبِ، وَمَالِ الْعَبْدِ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ -: إمَّا أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ، فَمَالُهُ لَهُ وَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَرِقَّ، فَمَالُهُ - قَبْلُ وَبَعْدُ - كَانَ عِنْدَهُمَا لِسَيِّدِهِ؛ فَزَكَاتُهُ عَلَى السَّيِّدِ وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَاتٍ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِهِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ، وَالْمُكَاتَبُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَمَّا الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ - وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ خَطَأٌ؛ فَهَذَا هُوَ التَّحَكُّمُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ.

الصفحة 6