كتاب مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (اسم الجزء: 4)

وإن لم يكن له إفاقة صار متأسّفًا على فوات ما كان يلتذّ به، فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يَحْمَدُ جنى ما غَرَس، ويلتذّ بتصنيف ما جَمَع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذّاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها، كما قال الشاعر:
أَهْتَزُّ عِنْدَ تَمنِّي وَصْلِهَا طَرَبًا ... وَرُبَّ أُمْنِيَّةٍ أَحْلَى مِنَ الظَّفَرِ
ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندِمتُ عليه، ثم تأملت حالي، فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم، فقال لي إبليس: ونسيتَ تعبك وسهَرَك؟ فقلتُ له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدّت إلى صديق:
جَزَى اللهُ الْمسِيرَ إِلَيْهِ خَيْرًا ... وَإِنْ تَرَكَ الْمطَايَا كَالْمزَادِ
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عُرِفت بكثرة سماعي لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحواله، وآدابه، وأحوال الصحابة، وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود (¬1). انتهى كلام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى (¬2).
¬__________
(¬1) هكذا النسخة، ولينظر.
(¬2) "صيد الخاطر" 234 - 235.

الصفحة 552