كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 141
التمتع الحاضر ، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه ) زبد مثله ) أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه .
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود ، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول : هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى ، فيا له من مثل فأجيب قوله : ( كذلك ) أي مثل هذا الضرب ، لعلى الرتب ، الغريب العجب ، المتين السبب ) يضرب الله ) أي الذي له الأمر كله ) الحق والباطل ) أي مثلهما ؛ وضرب المثل : تسييره في البلاد يتمثل به الناس .
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل ، شرع في شرحه ، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام ، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم ، وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش ، فقال : ( فأما الزبد ) أي الذي هو مثل للباطل المطلق ) فيذهب ( متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته ) جفاء ( قال أبو حيان : أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه لا بقاء له ؛ وقال ابن الأنباري : متفرقاً ، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته ، وجفأت الرجل : صرعته - انتهى .
فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد ، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً ؛ وقال الرماني : والجفاء : بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك ) وأما ما ينفع الناس ( من الماء والفلزالذي هو مثل الحق ) فيمكث في الأرض ( ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء ، والفلز الذي به التمام ، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة ، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة ، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة .
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان ، لأنه أحسن شيء معنى بأوجرعبارة وأوضح دلالة ، كان كأنه قيل : هل يتبين كل شيء هذا البيان ؟ فقيل : نعم ، ) كذلك ) أي مثل ذلك الضرب ) يضرب الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ) الأمثال ( فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض .

الصفحة 141