كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 17
المقدر قوله : ( وجاؤوا أباهم ( دون يوسف عليه الصلاة والسلام ) عشاء ( في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبيهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار ، وقد قيل : لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار .
والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع ) يبكون ( والبكاء : جريان الدمع في العين عند حال الحزن ، فكأنه قيل : إنهم إذا بكوا حق لهم البكاء خوفاً من الله وشفقة على الأخ ، ولكن ماذا يقولون إذا سألهم أبوهم عن سببه ؟ فقيل : ( قالوا يأبانا ( .
ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة ، أكدوا فقالوا : ( إنا ذهبنا نستبق ) أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك ) وتركنا يوسف ( أخانا ) عند متاعنا ) أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه ) فأكله ) أي فتسبب عن انفراده أن أكله ) الذئب وما ) أي والحال أنك ما ) أنت بمؤمن لنا ) أي من التكذيب ، أي بمصدق ) ولو كنا ) أي كوناً هو جبلة لنا ) صادقين ) أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك ، لأنك لم تجرب علينا قط كذباً ، ولا حفظت عنا شيئاً منه جداً ولا لعباً .
ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس ، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل لعى بطلانه ، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه ، أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم .
فقال تعالى حاكياً عنهم : ( وجاؤوا على قميصه ) أي يوسف عليه الصلاة والسلام ) بدم كذب ) أي مكذوب ، أطلق عليه المصدر مبالغة لأنه غير مطابق للواقع ، لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها - نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد .
قال : والدم : جسم أحمر سيال ، من شأنه أن يكون في عروق الحيوان ، وله خواص تدرك بالعيان من ترجرج وتلزج وسهوكه ، وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخذ القميص منهم وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، وكان القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم ، ودلالته على صدق يوسف عليه الصلاة والسلام في قده من دبر ، وعود البصر إلى أبيه به ، فكأنه قيل : هل صدقهم ؟ فقيل : لا لأن العادة جرت في مثله أنه لا يأكله كله ، فلا

الصفحة 17