كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 30
أرجو إحسانه في هذا ) أحسن مثواي ( بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه ، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه ، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن ، لأنه يستلزم نصح العزيز ، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى .
ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول : وإذا كان ظلماً كان ماذا ؟ قال ما تقديره : إني إذن لا أفلح ، وعلله بقوله : ( أنه لا يفلح ) أي لا يظفر بمراده أصلاً ) الظالمون ) أي العريقون في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل ، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه ، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء ، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح .
ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ غذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية ، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك : ( ولقد همت به ) أي أوقعت الهم ، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته ، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها ) وهمَّ بها ( كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب ) لولا أن رءآ ) أي بعين قلبه ) برهان ربه ( الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي لهمّ بها ، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين ، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى ، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب ، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً ، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء ، وأن السجن أحب إليه من ذلك ، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها
77 ( ) ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ( ) 7
[ يوسف : 25 ] - الآية ، من مطلق الإرادة ، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد ( لولا ) في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب ، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله ، وهذا مثل قوله تعالى
77 ( ) إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ( ) 7
[ القصص : 10 ] أي لأبدت به ، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت ، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب ( لولا )

الصفحة 30