كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)
صفحة رقم 37
ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته ، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم ، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد ، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له ، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهار لعليّ قدرة بمخالفة العوائد مرة بعد مرة ، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة ؛ فقال : ( ثم ( لهذا المعنى ، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد ) بدا ) أي ظهربعد الخفاء كما هي عادتهم ) لهم ( والبداء في الرأي : التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه .
ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهرتلونوا بعده إلى رأي آخر ، أدخل الجار ما ظهر له المانع منه : ( ليسجننه ( فيمكث في السجن ) حتى حين ) أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة ، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه ، وقيل : إن ذلك الحين سبع سنين ، قيل : كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز : إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب ، وأنا محبوسة ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر ، وإما أن تسويه بي في السجن ؛ قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدتهن فهذا جزاءه أن يسجن قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى .
وهذا دليل على قوله
77 ( ) إن كيدكن عظيم ( ) 7
[ يوسف : 28 ] .
قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع : وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف ، ونعمة في طي بلية ونقمة ، ويسر في عسر ، ورجاء في يأس ، وخلاص بعد لات مناص ، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف ، وربما يسوقه بلطف ، والقهرو العنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى .
ولما ذكر السجن ، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة ، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه سبب الكرامة ، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصفات القهر ، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم ، فقال تعالى : ( ودخل ) أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل