كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 39
من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك ، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له ، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك ، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره : ( لا يأتيكما ) أي في اليقظة ) طعام ( وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله : ( ترزقنه ( بناه للمفعول تعميماً ) إلاّ نبأتكما ) أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً ) بتأويله ) أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره .
ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله ، نزع الخافض فقال : ( قبل أن يأتيكما ) أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا ، فيكون سبباً لكذا ، فإن المسبب الناشىء عن السبب هو المال .
ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه ، وكان محل أن يقال : من علمك ذلك ؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل : ( ذلكما ) أي الأمر العظيم ؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله : ( مما علمني ربي ) أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم ، فكأنه قيل : ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك ؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله ، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل : ( إني تركت ملة قوم ) أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون ، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي ، نبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه ، فقال : ( لا يؤمنون ) أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر ) بالله ) أي الملك الأعظم الذي لا يخفي أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم ؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغني فيه أحد عن أحد ، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير ، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً ، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه ، ولا يصدقه ، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد : ( وهم بالآخرة ) أي الدار التي لا بد من الجمع إليها ، لأنها محط الحكمة ) هم ) أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم ، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل ، وأن غيرهم وقفوا على الهدى ) كافرون ) أي عريقون في التغطية لها ، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها ؛ والملة : مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة ، وأصله من المليلة ، وهي حمى تلحق

الصفحة 39