كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 527
حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله عنهما في حديث الإسراء : ( فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة ) ثم أبدل من ) مريم ( بدل اشتمال قوله : ( إذ ) أي اذكر ما اتفق لها حين ) انتبذت ) أي كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت ) من أهلها ( حالة ) مكاناَ شرقياً ( عن مكانهم ، فكان انفرادها في جهة مطالع الأنوار إشارة إلى ما يأتيها من الروح الإلهي ) فاتخذت ) أي أخذت بقصد وتكلف ، ودل على قرب المكان بالإتيان بالجار فقال : ( من دونهم ) أي أدنى مكان في مكانهم لانفرادها للا غتسال أو غيره ) حجاباً ( يسترها ) فأرسلنا ( لأمر يدل على عظمتنا ) إليها روحنا ( جبرائيل عليه السلام ليعلمها بما يريد الله بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، لئلا يشتبه عليها الأمر ، ويتشعب بها الفكر ، فتقتل نفسها غماً ) فتمثل لها ) أي تشبح وهو روحاني بصورة الجسماني ) بشراً سوياً ( في خلقه حسن الشكل لئلا تشتد نفرتها وروعها منه ؛ ثم أخرج القصة مخرج الاستئناف فقال دالاً على حزمها وخلوص تعبدها لله والتجائها إليه وشهودها له بحيث لا تركن إلى سواه : ( قالت ( .
ولما كان على أنهى ما يكون من الجمال والخلال الصالحة والكمال ، فكان بحيث يستبعد غاية الاستبعاد أن يتعوذ منه أكدت فقالت : ( إني أعوذ بالرحمن ( ربي الذي رحمته عامة لجميع عباده في الدنيا والآخرة ، وله بنا خصوصية في إسباغ الرحمة وإتمام النعمة ) منك ( ولما تفرست فيه - بما أنار الله من بصيرتها وأصفى من سريرتها - التقوى ، ألهبته وهيجته للعمل بمضمون هذه الاستعاذة بقولها : ( إن كنت تقياً قال ( جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه : إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً ، مؤكداً لأجل استعاذتها ، ) إنما أنا رسول ربك ) أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً ، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية ، وعبر باسم الرب المتقضي للإحسان لطفاً بها ، ولأن هذه السورة مصدره بالرحمة ، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده ) لأهب ( بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى ) لك ( وقدم المتعلق تشويقاً إلأى المفعول ليكون أوقع في النفس ؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله : ( غلاماً ) أي ولداً ذكراً في غايىة القوة والرجولية ) زكياً ( طاهراً من كل ما يدنس البش : نامياً على الخير والبركة ) قالت ( مريم : ( أنّى ) أي من أين وكيف ) يكون لي غلام ( ألده ) ولم يمسسني بشر ( بنكاح أصلاً حلال ولا غيره بشبهة ولا غيرها .

الصفحة 527