كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 528
ولما هالها هذا الأمر ، أداها الحال إلى غاية الإسراع في إلقاء ما تريد من المعاني لها لعلها تستريح مما تصورته ، فضاق عليها المقام ، فأوجزت حتى بحذف النون من ( كان ) ولتفهم أن هذا المعنى منفي كونه على أبلغ وجوهه فقالت ) ولم أك ( .
ولما كان المولود سر من يلده ، وكان التعبير عنه بما هو من مادة الغلمة دالاً على غاية الكمال في الرجولية المقتضي لغاية القوة في أمر النكاح نفت أن يكون فيها شيء من ذلك فقالت : ( بغياً ) أي ليكون دأبي الفجور ، ولم يأت ( بغية ) لغلبة إيقاعه على النساء ، فكان مثل حائض وعاقر في عدم الإلباس ولأن بغية ، لا يقال إلا للمتلبسة به ) قال ) أي جبريل عليه السلام ) كذلك ( القول الذي قلت لك يكون .
ولما كان لسان الحال قلائلاً : كيف يكون بغير سبب ؟ أجاب بقوله : ( قال ( ولما بنيت هذه السورة على الرحمة واللطف والإحسان بعباد الرحمن ، عبر باسم الرب الذي صدرت به بخلاف سورة التوحيد آل عمران المصدرة بالاسم الأعظم فقال : ( ربك هو ) أي المذكور وهو أيجاد الولد على هذه الهيئة ) عليّ ) أي وحدي لا يقدر عليه أحد غيري ) هين ) أي خصصناط به ليكون شرفاً به لك .
ولما كان ذلك أعظم الخوارق ، نبه عليه بالنون في قوله ، عطفاً على ما قدرته مما أفهمه السياق : ( ولنجعله ( بما لنا من العظمة ) ءاية للناس ) أي علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام ، وبه تمام القسمة الراعية في خلق البشر ، فإنهه أوجده من أنثى بلا ذكر ، وحواء من ذكر بلا أنثى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى ، وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً ) ورحمة منا ( لمن آمن به في أول زمانه ، ولأكثر الخلق بالإيمان والإنجاء من المحن في آخر زمانه ، لا كآية صالح عليه السلام لأنها كانت آية استئصال لأهل الضلال ) وكان ( ذلك كله ) أمراً مقضياً ) أي محكوماً به مبتوتاً هو في غاية السهولة لا مانع منه أصلاً ، ونبه على سرعة تسبيب الحمل عن هذا القول وإن كان التقدير بما أرشد إليه في غير هذه السورة : فنفخ في درعها فوصل النفخ إلى جوفها ) فحملته ( وعقب بالحمل قوله : ( فانتبذت به ) أي فاعتزلت - وهو في بطنها - حالة ) مكاناً قصياً ) أي بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي ، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله : ( فأجاءها ) أي فأتى بها وألجأها ) المخاض ( وهو تحرك الولد في بطنها للولادة ) إلى جذع النخلة ( وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان ، وكان تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها ، فكانت كالعلم لما فيها من العجب ، لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ، ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة

الصفحة 528