كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 538
بإضافتها إلى نفسه فقط ، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها ؛ والرغبة عن الشيء : تركه عمداً .
ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال : ( يا إبراهيم ( ثم استأنف قوله مقسماً : ( لئن لم تنته ( عما أنت عليه ) لأرجمنك ) أي لأقتلنك ، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين ، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته ) واهجرني ) أي ابعد عني ) ملياً ) أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام ، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ، ويقاسي من قومه من العناء ، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا - بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً ) قال ) أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم : ( سلام عليك ) أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء ؛ ثم استأنف قوله : ( سأستغفر ( بوعد لا خلف فيه ) لك ربي ) أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله ، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله : ( إني أخاف أن يمسك ( .
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال : ( إنه كان بي ) أي في جميع أحوالي ) حفيّاً ) أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة ، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال : ( وأعتزلكم ) أي جميعاً بترك بلادكم ؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله : ( وما تدعون ) أي تعبدون ) من دون الله ( الذي له الكمال كله ، فمن أقبل عليه وحده أصاب ، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن ، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ) وأدعوا ) أي أعبد ) ربي ( وحده لا ستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه : ( عسى ألاّ أكون ) أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء ) بدعاء ربي ( المتفرد بالإحسان إلي ) شقياً ( كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه ، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم .
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى ، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد ، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله :
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

الصفحة 538