كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 59
ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب ، قال : ( وما ابرىء ) أي تبرئة عظيمة ) نفسي ( عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة ، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس ، وعلل عدم التبرئة بقوله - مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار ، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة - : ( ن النفس ) أي هذا النوع ) لأمارة ) أي شديدة الأمر ) بالسوء ) أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت ) إلا ما ) أي وقت أن ) رحم ربي ( بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به ، أو إلا ما رحمة ربي من النفوس فلا يأمر بسوء ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له : ( إن ربي ) أي المحسن إليّ ) غفور ) أي بليغ الستر للذنوب ) رحيم ) أي بليغ الإكرام لمن يريد .
ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم - من نزاهة الصديق ، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها - على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه ، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله ) قال ما خطبكن ( فقال : ( وقال الملك ( صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، ولو كان الكل من كلامها لا ستغنى بالضمير ولم يحتج إلى إبرازه ) ائتوني به أستخلصه ) أي أطلب وأوجد خلوصه ) لنفسي ) أي فلا يكون لي فيه شريك ، قطعاً لطمع العزيز عنه ، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه ، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال ، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء .
ولما كا ن التقدير : فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى ، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة ، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار ، وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وبيوت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء .
ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه ، عطف عليه بالفاء - دليلاً على إسراعه في ذلك - قوله : ( فلما كلمه ( وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة ) قال ( مؤكداً تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة : ( إنك اليوم ( وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال : ( لدينا مكين ) أي شديد المكنة ، من المكانة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده ) أمين ( من الأمانة ، وهي حال يؤمن معها نقض العهد ، وذلك أنه

الصفحة 59