كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 62
فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك ، زجر البحر الأحمر فجف ، أجازهم في اللجج كأنهم في البر ، خلصهم من أيدي الأعداء ، وأنقذهم من أيدي المبغضين ، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد ، فآمنوا بكلامه ، ومجدوا بسبحته .
ثم أسرعوا فنسوا أعماله ، ولم ينتظروا إرادته ، اشتهوا شهوة في البرية ، جربوا الله حيث لا ماء ، فأعطاهم سؤلهم ، وأرسل شبعاً لنفوسهم ، أغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب ، انفتحت الأرض ، وابتلعت داثان ، وانطبقت على جماعة بيرون ، واشتعلت النار في محافلهم ، وأحرق اللهيب الخطأة ، صنعوا عجلاً في حوريب ، وسجدوا للمنحوت ، وبدلوا مجدهم بشبه عجل يأكل عشباً ، ونسوا الله الذي نجاهم ، وصنع العظائم بمصر والعجائب في أرض حام ، والمهولات في البحر الأحمر ، قال : إنه يهلكهم لولا موسى صفيه قام بين يديه ليصرف سخطه ، لئلا يستأصلهم ، ورذلوا الأرض الشهيه ، ولم يؤمنوا بكلمته ، وتقمقموا في مضاربهم ، ولم يسمعوا قول الرب ، فرفع يده عليهم ليهلكهم في البرية ، ويفرق ذريتهم في الأمم ، ويبددهم في البلدان ، لأنهم قربوا لباعل فاغور ، وأكلوا ضحايا ميتة ، وأسخطوه بأعمالهم ، وكثر الموت فيهم بغتة ، فقام فنحاس واستغفر لهم ، فارتفع الموت عنهم ، فحسب ذلك برّاً لجيل بعد جيل إلى الأبد ، ثم أسخطوه على ماء الخصام ، وتألم موسى لأجلهم ، وأغضبوا روحه ، وخالفوا كلام شفتيه ، ولم يستأصلوا الأمم الذين أمرهم الرب ، واختلطوا بالشعوب وتعلموا أعمالهم ، فكانت عِشرة لهم ، ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين ، وضحوا لأصنام كنعان ، ودنسوا الأرض بالدماء ، وتنجسوا بأعمالهم ، وزنوا بأفعالهم ، فاشتد غضب الرب على شعبه ، ورذل ميراثه ، فأسلمهم في أيدي الشعوب ، وسلط عليهم شناتهم ، واستعبدهم أعداؤهم وخضعوا تحت أيديهم ، مراراً كثيرة بجاهم ، وهم يسخطونه بأفكارهم ، وذلوا بسيئاتهم - انتهى ؛ على أنك إذا تأملت وجدت أن الله تعالى يعلي كعب الغريب الذي يستذلونه ويحل سعده ويؤثل مجده - كما فعل بيوسف عليه الصلاة والسلام بعد السجن وببني إسرائيل بعد الاستعباد ، وهو نعم المولى ونعم النصير فليحذر الساكن بها من أن يغلب عليه طبعها فيتصف بكل ذلك من قلة الغيرة وبغض الغريب ، والجرأة في الباطل استصناعاً ومداهنة ، والجبن في الحق ، وكمال الذل للجبارين ، والمجمجة في الكلام ، بأن لا يزال يتعهد نفسه بأوامر الله ويحملها على طاعته ، واتباع رسوله ومحبته ، والنظر في سيرته وسير أتباعه ، والتعشق لذلك كله ، حتى يصير ه طبعاً يسلخه من طبع البلد ، كما فعل عُبادها ، وأهل الورع منها وزهادها - أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله أن يختم لنا بالصالحات ، وأن يجعلنا من الذين لا خوف عليهم أبداً .

الصفحة 62