كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)
صفحة رقم 89
غاب من الاسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها ؛ قال هذه المقالة ) وتولى ) أي انصرف بوجهه ) عنهم ( لما تفاقم عليه من الحزن ، وبلغ به من الجهد ، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر ) وقال ( مشتكياً إلى الله لا غيره ، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء : ( ياأسفي ) أي يا أشد حزني ، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له ، وجناس ( الأسف ) مع ( يوسف ) مما لم يتعمدن فيكون مطبوعاً ، فيصل إلى نهاية الإبداع ، وأمثاله في القرآن كثير ) على يوسف ( هذا أوانك الذي ملأني بك فنادني كما أنادمك ، وخصه لأنه قاعدة إخوانه ، انبى عليها وتفرع منها ما بعدها ) وابيضت عينه ) أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار ، فعمى البصر ) من الحزن ( الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض ، فذكر السبب الأولن يقال : بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء طنه قط .
ثم علل ذلك بقوله : ( فهو ) أي بسبب الحزن ) كظيم ) أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب ، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة ، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وهو أبلغ منه ، من كظم السقاء - إذا شده على ملئه .
ومادة ( كظم ) تدور على المنع من الإظهار ، يلزمه الكرب - لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه ، ويلزمه الامتلاء ، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور ، كظم غيظه - غذغ سكت بعد امتلائه منه ، وكظمت السقاء - إذا ملأته وسددته ، وكظم البعير جرته - إذا ردها وكف ، والكظم : مخرج النفس ، لأنه به يمنع من الجري في هواه ؛ الكظامة : حبل يشد به خرطوم البعير ، لمنعه مما يريد ، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا ، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء ، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض ، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر ، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين ، فلولاه لفاضت القوية ، فهو تصريفة لمائها في غير وجهه ، وكظامة الميزان : المسمار الذي يدور فيه اللسان ، لأنه يربطه فيمنعه من الانفكاك ، ويقال : مازلت كاظماً يومي كله ، اي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً ، وقد يطلق على مطلق النبع ، ومنه كاظمة - لقرية على شاطىء البحر ، لأن البحر قد كظمها عن الانفساخ وكذا هي منعته عن الانسياح .