كتاب نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور - العلمية (اسم الجزء: 4)

صفحة رقم 94
والتقوى : دفع البلاء بسلوك طريق الهدى ؛ والصبر : حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي ، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته ، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز ، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهمن فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة ، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم ، فإن الأمور العظام - إن لم تكم بالتدريج - عظم خطرها ، وتعدى ضررها ، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده ، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه ، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر ، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه ، ويحصل له وحشة بحبس أولاده ، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك ، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره ، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج ، ويقفوا على ذل منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون ، فتسكن روعتهم ، وتهون زلتهم ، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر ، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر ، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادهاِ ، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداده ، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله ، فكان موضع الوجل والخجل ، وموضع اليأس الرجاء ، فحصل المراد على وفق السداد - والله الموفق ؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة
77 ( ) لعلكم تعقلون ( ) 7
[ يوسف : 2 ] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم ، وأن لا يستعجلوه في أمر ، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام ، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان - كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله ؛
77 ( ) حتى إذا استيئس الرسل ( ) 7
[ يوسف : 110 ] الآية والله أعلم .
ولما كان ما ذكر ، كان كأنه قيل : لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا ؟ فقيل : ( قالوا ( متعجبين غاية التعجب .
ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك : ( تالله ) أي الملك الأعظم ) لقد آثرك الله ) أي الذي له الأمر كله ) علينا ) أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى : فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى

الصفحة 94