كتاب الفصول في الأصول (اسم الجزء: 4)

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ، فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ (مِنْهُ) بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَخْتَارُ مِنْ آرَائِهِمْ مَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِيَنْفِيَ عَنْهُ الْفَظَاظَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ إلَى آرَائِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْوَحْيُ.
قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى آرَائِهِمْ - بِاعْتِبَارِ الصَّوَابِ مِنْهَا - بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ، لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُشَاوَرُونَ ثُمَّ لَا يُلْتَفَتُ إلَى رَأْيِهِمْ، زَادَ ذَلِكَ فِي وَحْشَتِهِمْ وَانْخِزَالِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ يَرْتَفِعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا. إذْ هُوَ بِالْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِمَا يُوجِبُ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُهُمْ أَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْوَحْيَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيُظْهِرُوا آرَاءَهُمْ، وَمَا يُؤَدِّيهِمْ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ، فَيَجْتَهِدُ مَعَهُمْ، وَيَخْتَارُ الصَّوَابَ عِنْدَهُ مِنْهَا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ، قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ مَنْزِلًا يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَزَلْتَهُ؟ أَبِأَمْرِ اللَّهِ هُوَ فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ. أَمْ بِالرَّأْيِ وَالْمَكِيدَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ بِالرَّأْيِ فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُبَادِرَ إلَى الْمَاءِ، فَتَنْزِلَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهِ فَقَبِلَ ذَلِكَ» . وَكَذَلِكَ «يَوْمَ الْأَحْزَابِ، لَمَّا عَزَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقَوْمًا مَعَهُ نِصْفَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِنُوا قُرَيْشًا عَلَيْهِ، قَالَتْ الْأَنْصَارُ: أَرَأْيٌ رَأَيْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ وَحْيٌ؟ فَقَالَ بَلْ رَأْيٌ. رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدٍ، فَرَأَيْتُ أَنْ

الصفحة 26