كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 4)
وَالذُّرَةِ بِالدُّخْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا، فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ» . فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. ثُمَّ يَبْطُلُ بِالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِمَا مَعَ تَقَارُبِهِمَا. وَاتَّفَقَ الْمُعَلِّلُونَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، أَشْهَرُهُنَّ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُ مَوْزُونَ جِنْسٍ، وَعِلَّةُ الْأَعْيَانِ الْأَرْبَعَةِ مَكِيلُ جِنْسٍ. نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ الْجَمَاعَةُ، وَذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ، أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَالْحُبُوبِ، وَالْأُشْنَانِ، وَالنُّورَةِ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْوَرْسِ، وَالْحِنَّاءِ، وَالْعُصْفُرِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجْرِي فِي مَطْعُومٍ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ. وَهُوَ الرِّبَا، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ، وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ مِثْلًا بِمِثْلٍ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا.» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَرَوَاهُ عَنْ ابْنِ صَاعِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشِ، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ، وَأَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ هَكَذَا غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَرَوَاهُ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَعَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: «الْعَبْدُ خَيْرٌ مِنْ الْعَبْدَيْنِ، وَالثَّوْبُ خَيْرٌ مِنْ الثَّوْبَيْنِ. فَمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسَاءِ، إلَّا مَا كِيلَ أَوْ وُزِنَ.» وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْبَيْعِ الْمُسَاوَاةُ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِهَا الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَالْجِنْسُ، فَإِنَّ الْوَزْنَ أَوْ الْكَيْلَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا مَعْنًى، فَكَانَا عِلَّةً، وَوَجَدْنَا الزِّيَادَةَ فِي الْكَيْلِ مُحَرَّمَةً دُونَ الزِّيَادَةِ فِي الطَّعْمِ؛ بِدَلِيلِ بَيْعِ الثَّقِيلَةِ بِالْخَفِيفَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إذَا تُسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ، وَنَحْوَ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْعِلَّةُ الطَّعْمُ، وَالْجِنْسُ شَرْطٌ.
وَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَوْهَرِيَّةُ الثَّمَنِيَّةِ غَالِبًا، فَيَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» .
الصفحة 5
442