كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 4)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قَالَ: سَمِعْت أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجْمِعَ عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(ش) : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] قَالَ مَالِكٌ النِّسَاءُ وَاقِعٌ عَلَى الْإِمَاءِ الْحَرَائِرِ، وَالْإِمَاءِ الزَّوْجَاتِ، وَالسَّرَارِي وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الزَّوْجَاتِ، وَالسَّرَارِي.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قَالَ مَالِكٌ: إنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ يَعْنِي الْعَوْدَةَ أَنْ يُجْمِعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ بِمَاذَا تَتَعَلَّقُ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَمُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ: وُجُودُ الظِّهَارِ، وَالْعَوْدَةُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ: تَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ دُونَ شَرْطٍ آخَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ، وَالْعَوْدَةِ فَمَنْ قَالَ: إنَّمَا تَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ دُونَ الْعَوْدَةِ فَقَدْ خَالَفَا النَّصَّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ عَلَى صِفَتَيْنِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا شَرْطَانِ فِي ثُبُوتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَسْلَمَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَصْفَيْنِ شَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الْجَلْدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَوْدَةَ شَرْطٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالظِّهَارِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَا هِيَ وَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ: إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْعَزْمُ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُوَطَّأِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ هَذَا أَنَّ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ عَوْدَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُمَا عِنْدِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنَى الْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ فَقَدْ عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا إلَى أَنْ يَطَأَ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْإِمْسَاكِ أَنْ يَنْوِيَ إمْسَاكَهَا أَبَدًا بَلْ لَوْ عَزَمَ عَلَى إمْسَاكِهَا سَنَةً لَكَانَ عَازِمًا عَلَى الْإِمْسَاكِ، وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَلَّابِ وَغَيْرُهُ رِوَايَةً أُخْرَى: أَنَّ الْعَزْمَ هُوَ نَفْسُ الْوَطْءِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَطَاوُسٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ الزَّمَانِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ فِيهَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ فَلَا يُوقِعُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَثُمَّ تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَوْدَةَ تَكُونُ بَعْدَ إيقَاعِ الظِّهَارِ بِمُهْلَةٍ.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعَوْدَةُ مِنْ فِعْلِ الْمُظَاهِرِ، إمَّا عَزْمٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَتَرْكِ طَلَاقٍ فَهُوَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ وُجُوبُهَا عَنْ الْيَمِينِ أَصْلُ ذَلِكَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْعَوْدَةَ تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ فَذَهَبَ دَاوُد إلَى أَنَّ الْعَوْدَةَ هِيَ إعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَيْمَانِ بِمُخَالَفَةِ الْيَمِينِ وَمَنْ ظَاهَرَ اقْتَضَى ظِهَارُهُ تَحْرِيمَ زَوْجَتِهِ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ عَادَ فِيمَا تَرَكَ وَرَجَعَ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي حَرُمَ وَفِي مِثْلِ هَذَا يُقَالُ عَادَ فُلَانٌ لِكَذَا وَإِلَى كَذَا إذَا كَانَ قَدْ تَرَكَهُ وَحَرَّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ عَادَ فُلَانٌ لِشُرْبِ الْخَمْرِ إذَا كَانَ قَدْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِالظِّهَارِ ثَانِيًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَأَوْجَبَهَا الْأَوَّلُ فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْهُ الْأَوَّلُ لَمْ يُوجِبْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3]
الصفحة 49
308