كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 4)

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَتُعْتَقُ: إنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَمَسَّهَا قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ مَسَّهَا فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَهِلَتْ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، فَإِنَّهَا تُتَّهَمُ وَلَا تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ مِنْ الْجَهَالَةِ وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ أَنْ يَمَسَّهَا)
ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ إلَّا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْإِدَامِ، وَالطَّعَامِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْلَ الْإِنْسَانِ أَفْضَلَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِدَامِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْوَرَعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] ؛ لِأَنَّ الْوَرَعَ إنَّمَا هُوَ فِي سَلَامَةِ الْمَكْسَبِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيثَارَ بِهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْبَرِّ كَمَا أَنَّ إنْفَاقَهُ عَلَى الْعِيَالِ، وَالتَّوَسُّعَةَ مِنْهُ عَلَيْهِمْ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْبَرِّ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ إخْبَارٌ لَهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي مُنِعَ مِنْ تَقْدِيمِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذَا مِمَّا تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْتَنَعُ مِنْهُ لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْإِدَامِ، وَلَوْ عُهِدَ مِنْهُ تَرْكُهُ لِذَلِكَ كَمَا عُهِدَ مِنْهُ تَرْكُهُ أَكْلَ الصَّدَقَةِ لَجُووِبَ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ السَّرَفُ فِي الْمَطْعَمِ، وَالْخُرُوجُ بِهِ عَنْ الْعَادَةِ، وَمَا تُتَّخَذُ بِهِ الْمَطَاعِمُ الْمُسْتَطَابَةُ الْمُعْتَادَةُ وَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إلَى السَّرَفِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ وَجَمْعِ الْإِدَامِ، وَالْأَلْوَانِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ وَضِيقِ مَعَاشِهِمْ وَلَا بَأْسَ بِجَمْعِ الْإِدَامِ فِي النَّادِرِ لِضَيْفٍ أَوْ وَلِيمَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَوْ احْتِفَالٍ فِي عِيدٍ أَوْ اجْتِمَاعٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَرَعِ الْخُرُوجُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ بِكَثْرَةِ الْأَلْوَانِ، وَالْخُرُوجِ بِهَا عَنْ الْوُجُوهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ وَضْعِ الطِّيبِ فِيهَا بِكَثِيرِ الْأَثْمَانِ، وَأَقْبَحُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ الْحَاجَةِ بِالنَّاسِ وَضِيقِ مَعَاشِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إلَى الْمُوَاسَاةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مُتَصَدِّقُهَا فَجَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَلًّا لِقَبُولِهَا أَوْ كَانَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يَأْكُلُهَا قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الصَّدَقَةُ فِيهَا بِبُلُوغِهَا مَحَلَّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ مَحَلَّهَا وَصَارَتْ بِيَدِ مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يُهْدِيَهَا إلَيْهِ مَنْ قَبَضَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ أَوْ يَبِيعَهَا مِنْهُ أَوْ يُصَيِّرَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ وَجْهِ الصَّدَقَةِ، وَلَوْ كَانَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مَرَّةً ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الصَّدَقَةِ أَبَدًا لَمَا جَازَ لِلْفَقِيرِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَنِيٍّ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ إلَى حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْمِيرَاثِ فَيَرِثُهَا الْغَنِيُّ عَنْ مُوَرِّثِهِ الْفَقِيرِ وَتَصِيرُ إلَيْهِ عَنْهُ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّمْلِيكِ وَلَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ حُكْمُ الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ آخِرًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(ش) : قَوْلُهُ فِي الْأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَتُعْتَقُ: أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَنْ تَعَلَّقَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ اقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ الْحُرِّ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ الرُّتْبَةَ الَّتِي تَحْصُلُ لَهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَوْقَ رُتْبَةِ الْعَبْدِ فَأَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ الْخِيَارَ، وَإِذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا لَمْ تَكُنْ بِالْعِتْقِ أَرْفَعَ رُتْبَةً مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: إنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَمَسَّهَا يُرِيدُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ خِيَارُهَا بِالْمَجْلِسِ الَّذِي يَعْلَمُ فِيهِ بِعِتْقِهَا بَلْ لَهَا ذَلِكَ مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا طَائِعَةً أَوْ يَتْرُكُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً أَوْ يُوقِفُهَا السُّلْطَانُ فَإِمَّا قَضَتْ وَإِمَّا أَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ يَدِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا قِيلَ لَهَا: اخْتَارِي بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَالَتْ حَتَّى أَنْظُرَ وَأَسْتَشِيرَ وَمَنَعَتْهُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ خِيَارَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْعِتْقِ وَلَا بِمَجْلِسِ عِلْمِهَا بِهِ وَفِي الْمُزَنِيَّة سُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ أَمَةٍ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَأَقَامَتْ تَحْتَهُ أَيَّامًا ثُمَّ هَاجَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ فَقَالَ: إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا بِالرِّضَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ لِشَيْءٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِالرِّضَا، وَالْإِقَامَةِ وَتَرْكِ الْخِيَارِ

الصفحة 56