كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 4)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا يُرِيدُ أَنَّهُ أَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ مِنْ دَلِيلِ صِدْقِهِ أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْمُقَامُ مَعَهَا وَلَا الْإِمْسَاكُ لَهَا عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُمْسِكِ لَهَا وَلَا يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ اطَّلَعَ مِنْ زَوْجَتِهِ عَلَى مِثْلِ هَذَا يَبْلُغُ بِهِ الْغَضَبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَلَّ قَتْلَهَا لَقَتَلَهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِلشَّرْعِ أَبَانَهَا، أَوْ أَبْعَدَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُهُ حَتَّى لَا يَرَاهَا وَلَا يَقْدِرَ أَنْ يَسْمَعَ ذِكْرَهَا وَلَا خَبَرَهَا فَكَيْفَ أَنْ يُمْسِكَ عِصْمَتَهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ طَلْقَةٍ بَقِيَتْ لَهُ فِيهَا بِوَصْفِ طَلَاقِهِ كُلِّهِ فِيهَا مَا أَوْقَعَ قَبْلَ اللِّعَانِ وَمَا أَوْقَعَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ صَرَّحَ فِي طَلَاقِهَا بِالثَّلَاثِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ.
وَلَعَلَّهُ قَدْ جَرَى فِي الْمَجْلِسِ مَا عَلِمَ بِهِ عُوَيْمِرٌ حُكْمَ ذَلِكَ، أَوْ أَوْقَعَهُ ابْتِدَاءً لَمَّا بَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مِنْ فِعْلِهَا، وَالْبُغْضُ لَهَا، وَالْغَيْظُ عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ لَوْ لَمْ يَبْرَأْ بِهِ، فَإِنَّ طَلَاقَ اللِّعَانِ تَحْرِيمُهُ مُؤَبَّدٌ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الثَّلَاثِ يَرْتَفِعُ بِوَجْهٍ وَتَحْرِيمَ اللِّعَانِ لَا يَرْتَفِعُ بِوَجْهٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ فَطَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَمْ يُوَاقِعْ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِنَا ثَلَاثًا إلَّا مَا يُؤَثِّرُ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا سِيَّمَا إذَا نَوَى أَنَّ ذَلِكَ آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ طَلَّقَهَا وَمَعَ هَذَا، فَإِنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَى يَقْتَضِي مُبَاعَدَتَهَا فَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ أَنْ قَذَفَهَا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ فِرَاقُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ وَمَا وُجِدَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْوَطْءِ فَلَا تَأْثِيرَ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنَّهُ إذَا قَذَفَهَا وَقَالَ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي وَلَاعَنَ وَلَمْ يُسْأَلْ هَلْ وَطِئَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يَضُرُّهُ إنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعِي الِاسْتِبْرَاءَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ بِذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِأَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ مُؤَبَّدَةٌ بِإِجْمَاعٍ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ، وَفُرْقَةُ الثَّلَاثِ لَا تَتَأَبَّدُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالتَّمَادِي عَلَى حُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَقَعُ فُرْقَةُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا فُرْقَةٌ تَجِبُ بِاللِّعَانِ فَاسْتَغْنَتْ عَنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَلَوْ احْتَاجَتْ إلَى ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ بِاللِّعَانِ، وَدَلِيلٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ تَقْتَضِي تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ، وَالْمُصَاهَرَةِ.

(فَرْعٌ) وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ حَتَّى تُكْمِلَ الْمَرْأَةُ الِالْتِعَانَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْتِعَانِ الزَّوْجِ وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَكِنْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِلِعَانِهَا وَبِذَلِكَ يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْمَذْهَبِ إنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَتَبَعَّضُ وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُلَاعِنْ لَمْ تَثْبُتْ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ إتْمَامِ الْتِعَانِهَا.
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَوَجْهُ مَا نَقُولُهُ أَنَّ التَّلَاعُنَ لَمْ يَكْمُلْ فَلَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ لِعَانِ الزَّوْجِ شَيْءٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ الْمُتَلَاعِنَ بِأَثَرِ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَقْضِي بِمَا صَحَّ عَنْهُ رَوَاهُ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى قَالَ: إنِّي لَأُحِبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ مِثْلَ مَا صَنَعَ عُوَيْمِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ

الصفحة 73