كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 4)

(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَحَدُهُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا، وَهَذَا إخْبَارٌ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مَحْكُومٌ لَهُ فَيَحْكُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الشَّرْعِ فِي التَّحْلِيلِ، وَالتَّحْرِيمِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَالرَّضَاعِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ يُرِيدُ أَنَّهُ صَرَفَ نَسَبَهُ إلَى أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَى أَبِيهِ فَلَمَّا مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى أَبٍ وَنَسَبَهُ إلَى أُمِّهِ كَانَ ذَلِكَ وَجْهًا مِنْ إلْحَاقِهِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا لَهُ فِي الِانْتِسَابِ مَقَامَ الْأَبِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(ش) : قَوْلُ مَالِكٍ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ} [النور: 6] إلَى آخِرِهِ هَذَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ هَذَا بِالزَّوْجَاتِ دُونَ غَيْرِهِنَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَزْوَاجِ شُهَدَاءُ بِمَا يَدَّعُونَ عَلَى الزَّوْجَاتِ مِنْ الزِّنَا، وَهَذَا يُخْرِجُ الزَّوْجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الشَّاهِدِ، وَلَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ، فَإِنْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُدَّ الثَّلَاثَةُ الْأَجْنَبِيُّونَ، فَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُلَاعِنَ حُدَّ الزَّوْجُ مَعَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ فِيهَا قَذْفٌ وَتُرْجَمُ الْمَرْأَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ وَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْأَزْوَاجَ مِنْ الشُّهَدَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونُوا شُهُودًا وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةٌ فِي الزِّنَا لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالزَّوْجِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا فَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ زَوْجُهَا الزِّنَا لَمْ يَنْتَفِ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَإِنْ لَاعَنَ الزَّوْجُ وَنَكَلَتْ الْمَرْأَةُ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ إنْ كَانَتْ بِكْرًا بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا بِالرَّجْمِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ أَلْفَاظَ اللِّعَانِ أَيْمَانٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] .
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُ قَرَنَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ قَوْلَهُ: بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ قَدْ يُقَالُ فِيهَا أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا، وَكَذَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى فِعْلِهِ، وَالشَّاهِدُ لَا يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِهِ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنْ يَدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْحَدَّ عِنْدَنَا، وَالْحَبْسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ عِنْدَهُ عَذَابٌ، وَهَذَا حُكْمُ الْيَمِينِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْأَنْسَابِ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَزَوْجَتِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ عَلَى شِبْهِ الَّذِي قُذِفَتْ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لَهُ وَلَهَا شَأْنٌ» وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللِّعَانَ يَصِحُّ مِنْ الْفَاسِقِ، وَالْأَعْمَى، وَالشَّهَادَةُ لَا تَصِحُّ مِنْ الْفَاسِقِ وَلَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْأَعْمَى.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَبْدَأُ الرَّجُلُ بِاللِّعَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] الْآيَةَ فَبَدَأَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ بِامْرَأَتِهِ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِرَارًا فَقَالَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ: وَاَللَّهِ

الصفحة 76