كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 4)

إنها نزلت في كل كافر عاق لوالديه وعلى ثبوت أنها نزلت فيمن تقدم، لا ينافي أن المراد الجنس، فإنّ خصوص السبب لا يوجب التخصيص وفي {أف} قراءات ذكرت في سورة بني إسرائيل {أتعدانني} أي: على سبيل الاستمرار والتجديد في كل وقت وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية وفتح الياء نافع وابن كثير وسكنها الباقون. {أن أخرج} أي: من مخرج يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً يحييني كما كنت أوّل مرّة {وقد} أي: والحال أنه قد {خلت} أي: مضت على سنن الموتى {القرون} أي: الأمم الكثيرة مع صلابتهم {من قبلي} أي: قرناً بعد قرن، وتطاولت الأزمان، ولم يخرج منهم أحد من القبور {وهما} أي: والحال أنهما كلما قال لهما ذلك {يستغيثان الله} أي: يطلبان بدعائهما من له جميع صفات الكمال أن يغيثهما بإلهامه قبول كلامهما ويقولان إن لم ترجع {ويلك} أي: هلاكك بمعنى: هلكت {آمن} أي: أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز، بالتصديق بالبعث وبكل ما جاء عن الله تعالى. ثم علّلا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره بقولهما: {إنّ وعد الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال حق أي: ثابت أعظم ثبات؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الأخلاق الذي لا يرضاه لنفسه أقل الملوك. فكيف بملك الملوك؟ {فيقول} مسبباً عن قولهما ومعقباً له {ما هذا} أي: الذي تذكرانه من البعث {إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأوّلين} التي كتبوها.

{أولئك} أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير.
{الذين حق} أي: ثبت ووجب {عليهم القول} أي: الكامل في بابه، بأنهم أسفل السافلين. وهذا كما قال البيضاوي يردّ على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه وقال البقاعي: وهذا يكذب من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة فحقت له الجنة، ولما أثبت لهم هذه الشنعة بين كثرة من شاركهم فيها بقوله تعالى: {في} أي: كائنين في {أمم} أي: خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس، ويتبع بعضهم بعضاً {قد خلت} أي: تلك الأمم {من قبلهم} وكانوا قدوتهم وأدخل الجار؛ لأنّ المحكوم عليه بعض السالفين {من الجنّ} لأنّ العرب كانت تستعظمهم، وتستجير بهم وذلك لأنهم يتظاهرون لهم، ويؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم، وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن: فإنه أحرقهم بأنواره، وجلاهم عن تلك البلاد بتجلي آثاره {وإلانس} ولا نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم وقوله تعالى {إنهم} أي: كلهم {كانوا} أي: جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه {خاسرين} أي عريقين في هذا الوصف تعليل للحكم على الاستئناف. {ولكل درجات مما عملوا} قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقال مقاتل: ولكل واحد من الفريقين يعنى البارّ بوالديه والعاق لهما درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية.
فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات على أهل النار وقد روي «الجنة درجات والنار دركات» أجيب من وجوه أحدها: أنّ ذلك على جهة التغليب وثانيها: قال ابن زيد: درج أهل الجنة تذهب علواً، ودرج أهل النار تذهب هبوطاً وثالثها: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة،

الصفحة 11