كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 4)
{ما أرسلت به} ممن لا مرسل في الحقيقة غيره، سواء أكان وعداً أم وعيداً أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية؛ لأنّ ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم {ولكني أراكم} أي: أعلمكم علماً كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو: بفتح الياء والباقون: بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي محضة. والباقون بالفتح. {قوماً تجهلون} أي: باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين.
{فلما رأوه} أي: العذاب الذي توعدهم به {عارضا} أي: سحاباً أسود بارزاً في الأفق، ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم. {مستقبل أوديتهم} أي: طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك. {قالوا} على عادة جهلهم، مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأنّ جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم. {هذا عارض} أي: سحاب معترض في عرض السماء. أي: ناحيتها. {ممطرنا} قال المفسرون: كان حبس عنهم المطر أياماً فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى {بل هو} أي: هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي: طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى: {ريح} بدل من {ما} {فيها عذاب أليم} أي: شديد الإيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ، وتحمل الظعينة في الجوّ، فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، ثم تقذف بهم. ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى:
{تدمر} أي: تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً. {كل شيء} أي: أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به، فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة. {بأمر ربها} أي: المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه.
فإن قيل: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب: بأنّ فائدة ذلك: الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده.
وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات.
قيل: إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي: أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر.
وروي: أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح
الصفحة 14
621