كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 4)

من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم» كما قال تعالى:
{فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة: بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم، لقيامه مقام الفاعل. والباقون: بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل، ونصب مساكنهم مفعولاً به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من {القرى} {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الهائل؛ في أصله، أو جنسه، أو نوعه، أو شخصه من الإهلاك. {نجزي} بعظمتنا دائماً إذا شئنا {القوم المجرمين} أي: العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة أي: سحابة. قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فنقول له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا» فإن قيل قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33)

فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية ثم أخبر الله تعالى عن مكنة عاد بقوله سبحانه:
{ولقد مكناهم} أي: تمكيناً تظهر به عظمتنا {فيما} أي: في الذي {إن} نافية أي: ما {مكناكم} يا أهل مكة {فيه} من قوّة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، وغيرها. ثم إنّهم مع ذلك ما نجوا من عذاب الله تعالى. فكيف يكون حالكم؟.
تنبيه: قال البقاعي: وجعل النافي إن؛ لأنها أبلغ من {ما} لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه؟ لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. هـ.
وقال الزمخشريّ: إن نافية أي: فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله:
*لعمرك ما ما بان منك لضارب
وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى:
*يرجى المرء ما إن لا يراه
... وتعرض دون أدناه الخطوب
وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل {وجعلنا لهم} أي على ما اقتضته عظمتنا {سمعاً} وأفرده لقلة التفاوت فيه {وأبصاراً} وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى: {وأفئدة} أي: فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي: قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب

الصفحة 15